لم يدخل لبنان في أزمة سياسية كما يحلو للبعض قوله منذ أن قرّر ميقاتي الاستقالة، كل ما في الأمر أنّه بصدد البحث عن البدائل الأكثر فعالية في تسيير مؤسسات الجمهورية، وإيجاد الأرضية الملائمة لأن يكون على موعد مع الاستحقاقات القادمة.
الإجماع الحاصل اليوم في لبنان هو عدم الزجّ بالبلاد في متاهات خطيرة كان قد تعرض لها فيما سبق، ومهما كانت حدة الخلافات فهناك دائما مرجعية ثابتة لدى جميع “الفرقاء”، ألا وهي الحفاظ على الوطن من الحرب الأهلية التي تعدّ هاجسا يؤرق كل اللبنانيين ولا يريد أي أحد العودة إلى سنوات الجمر خلال منتصف السبعينات إلى غاية اتّفاق الطائف الذي أنهى عشرية من الاقتتال في الوطن الواحد.
هذه الصورة ما تزال راسخة وحيّة في أذهان اللبنانيين، قضت على الأخضر واليابس، والأكثر من هذا هجّرت الانسان وأبعدته عن الوطن العزيز، كل هذا أصبح لدى اللبناني خطوطا حمراء وضوابط وثوابت لا يتجاوزها أحدا ويقفز عليها من أجل أغراض ضيقة، هذا غير مقبول في بلاد الأرز اليوم، ولا يسمح لأيّ كان جرّ لبنان إلى ما لا يحمد عقباه. وهذا عرف سياسي، حتى إن كان غير مدوّن فإنّ الوجدان اللبناني حريص بأن لا يلحق الأذى بوحدته وسيادته وشعبه.
هذه القيم السياسية تعتبر خارطة طريق، ولا خيار آخر يمكن إنقاذ الوطن ماعدا التحلي بالتعقل والحكمة وضبط النفس، ومراعاة مستجدات الوضع وتطوراته مع الحذر من تداعيات الأحداث الخارجية.
لابد من التذكير بقدرة اللبنانيين على الخروج منتصرين في كل محنة، وما يحدث اليوم ليس في مستوى ما وقع سنة 1975، بإمكان اللبنانيين تجاوز ذلك بسهولة كبيرة، حتى وإن كانت أبعاد استقالة ميقاتي تتطلّب المزيد من التعمق فيها نظرا لحساسية السياق الراهن.
هذا الرجل منذ أن تولّى إدارة الجهاز التنفيذي في لبنان لم يحظ بموافقة فريق 14 آذار، كونه حلّ محل سعد الحريري، ومنذ تلك اللحظة سجّل الطلاق النهائي بين ميقاتي وهذه المجموعة، والكثير من رموز 14 آذار اعتبروا بأنّ الحكومة من إيعاز نصر اللّه وعون، وهذا الطرح سار على هذا المنوال طيلة عمل ميقاتي إلى غاية انسحابه، وهذا الأخير تلقّى اليوم تبريكات ذلك الفريق على ما وصفوه “بالشجاعة السياسية”.
وكأنّ استقالته كانت بطلب من هذا الفريق، هذا هو الانطباع الذي يخرج به كل متتبع للوهلة الأولى، لكن ما يقال عن استقالة ميقاتي كانت “سرية”، إلاّ أنّه أخطر نصر اللّه بذلك...لماذا استقال إذا؟ هذا هو السؤال الذي يتطلّب الأمر الاجابة عنه، رئيس الحكومة اللبنانية شعر في وقت معين بأنّه غير قادر على العمل مع فريق 8 آذار فقط والاستمرار في هذا المنحى هو مواصلة الدوران في حلقة مفرغة دون لمس أي نتيجة مرجوة.
وقد شهد المجلس النيابي مناقشات حادة حول ملفات معينة، كما انتقل ذلك إلى مجلس الوزراء، هذا التكرار للتجاذبات والضغوط السياسية أحرجته كثيرا، لذلك قرّر ترك الجمل بما حمل، وإدخال نفس جديد على التشكيلة الحكومية المقبلة التي ستكون من كل الأطياف.
ولا نعتقد بأن الأمر يتعلق بقضية تمديد مهام أشرف ريفي، رئيس قوى الأمن الداخلي، الذي اقترح أن يحال على المعاش، أو مسألة هيئة الإشراف...هذا للاستهلاك.
لكن الحقيقة هي أنّ لبنان أمام تحديات قوية منها إفرازات الأزمة الأمنية في سوريا واتباع سياسة “النأي بالنفس” ورفض حزب اللّه أي موقف رسمي لا يتوافق مع رؤيته الأمنية لمجريات الأحداث، لأنّ أي خطأ يكلّفه ثمنا باهضا وهذا بزعزعة التحالف المحوري بينه وبين النظام في سوريا وإيران، وهذا كله لجعل إسرائيل لا تعتقد أبدا بأن معادلة التوازنات العسكرية قد مالت إلى جهة معينة، ناهيك عن عدد النازحين السوريين في لبنان والذي لم يعد بمقدور الدولة التكفل بهم في غياب مساعدة أممية أو دولية.
ومن جهة أخرى، هناك تأييد فريق 14 آذار لـ “الثورة في سوريا”، هذا كله لم يترك ميقاتي إدارة شؤون البلد لأنّ الأمور أصبحت تتجاوزه بكثير في أحداث سوريا، انعكس ذلك على الصعيد الداخلي، وهذا من خلال الشلل الذي أصاب أجهزة الدولة، وانعدام أي تقدم على أصعدة التكفل بانشغالات الناس خاصة الخدماتية منها.
هذا التداخل أثّر كثيرا على ميقاتي، الذي أراد التخلي عن منصبه وتركه لمترشّحين آخرين، لتبدأ المشاورات الأولى يوم 2 أفريل القادم.
ويجب ترقّب تحركات كل القوى الفاعلة في لبنان اليوم من حزب اللّه والتيار الوطني، وغيرهم لأنّ الصمت الحالي ما هو إلا تحيّن لفرصة مواتية لإبداء الموقف النهائي الذي قد يفسد حسابات الفريق الآخر.
لبنان في الميزان
صوت العقل والبحث عن بدائل سياسية
جمال أوكيلي
شوهد:1375 مرة