مفاوضات ما يسمّى بـ “جنيف ٣” خيّبت آمال كل من كان يعتقد بأنّها إضافة سياسية لإنهاء نزاع دموي قضى على الأخضر واليابس، واستغرب الجميع طريقة التوقف المفاجئ تحت ضغط المعارضة التي كانت تتبنّى استراتيجية لم يتوقّعها الرّوس، بمعنى أنّها لم تعط لهذا البلد الفرصة لتمرير إملاءاته على تلك الوفود.
البوادر الأولى كانت لصالح روسيا قبل الذهاب إلى جنيف عندما استحوذت على الملف استحواذا كاملا، وحتى إنّها انفردت به أمام الدّعم الأمريكي لها، وهنا شعرت المعارضة بأنّها محلّ مؤامرة واسعة النّطاق لابد من إسقاطها مهما كان الأمر.
وعشيّة بدء هذه المفاوضات، شدّدت روسيا على إبعاد فصيلين مسلّحين باعتبارهما تنظيمين إرهابيين، وفي المقابل طالبت باستدعاء الأكراد.
لكن الأوضاع المتشنّجة لم تسمح بتحقيق هذه الشّروط المسبقة، لأنّ الوفد الذي يترأّسه حجاب رياض رئيس الهيئة العليا للمفاوضات تراجع عن المشاركة عندما سجّل أنّ الرّوس ينهالون عليهم بتصريحات لا تتماشى مع الهدف الأسمى لهذا المسعى السياسي، لذلك أصدروا بيانا طالبوا فيه بالتكفل بالجوانب الإنسانية في هذه الحرب، أي وقف القصف العشوائي ورفع الحصار عن المدن، وإطلاق سراح المعتقلين.
مباشرة وأمام الموقف المتعنّت للمعارضة، بعث “دي ميستورا” برسالة إلى الشّعب السّوري يدعوه إلى ممارسة الضّغط على المعارضة قصد المشاركة، وفي نفس الوقت أضاف يقول كفى قتلاً ودماءً وتشرّداً، لم تتعد سويعات حتى قرّر الوفد الذّهاب إلى جنيف، مفضّلا أن يبقى بعيدا عن هذه الأجواء حتى لا ينخرط في هذه العملية أو يتحمّل مسؤولية أو تبعات ما يجرى.
وهكذا اختار قاعة ليتوارى عن الأنظار، وفي أقل من ٤٨ ساعة حسم في مصير هذه المفاوضات، عندما شعر بثقل الشّروط عليه، ليطيح أو يكسّر المبادرة التي كانت في يد الرّوس، ويتنفّس الصّعداء من محاولات لجرّ هؤلاء إلى الاستسلام.
هكذا كانت الأجواء عشية وأثناء المفاوضات، لكن ماذا عن الفترة التي تلت ذلك؟ أولى المؤشّرات هي ما تعرّض له “دي ميستورا” على لسان وزير خارجية سوريا السيد وليد معلم، الذي حمّله مسؤولية عدم القدرة على تسيير المفاوضات، تاركا المجال للمعارضة في اتّخاذ قرار إلى غاية ٢٥ فيفري القادم، حتى الرّوس اندهشوا لعمل المبعوث الأممي، وقد شهد الملاحظون حضور عضو من جبهة النصرة محمد علوش، في حين رُفض ممثّل الأكراد واستنتج الجعفري والرّوس أنّ هناك خللا لابد من تصحيحه، فماذ سيقول هؤلاء يوم ٢٥ فيفري إن لم تؤجّل هذه الجلسة!؟
ونشير هنا، إلى أنّ “ستيفان دي ميستورا” غير مرغوب فيه لدى السّوريّين منذ أن استلم مهامه، وهذا عندما انتقد إسقاط براميل المتفجّرات على المدن تحت سيطرة الجماعات المسلّحة، ومحاصرة البعض من هذه المناطق، هنا نال هذا المبعوث الأممي ما نال من الملاحظات الصّادرة عن المسؤولين السّوريّين، ولا تصدم أي أحد مثل هذه التّصريحات الرّاهنة التي تعتبر امتدادا طبيعيا لما سبق.
وعليه فإنّ مقولة الفعل الدّبلوماسي هو ترجمة للعمل الحربي، لم تأخذ مجراها في جنيف ٣، هو رهان روسي بتكثيف القصف اللاّإنساني، يستحيل أن لا تمس شظايا تلك القنابل المنازل والإقامات وغيرها، لذلك فإنّ ما تعرّضت له مدينة حلب مؤخّرا جعل الروس يفكرون مليّا في توقيف ما يقومون به، وهذا خلال اجتماع ميونيخ.
وإن لم يتم وضع حدّ لهذا القصف، فإنّ المعارضة لن تعود إلى طاولة المفاوضات في التاريخ المحدّد للاستئناف، وحتى الآن لم يصدر أي تعليق عن جماعة رياض حجاب، وهي رسالة سياسية موجّهة إلى الروس لعلّ وعسى يتراجعون، لكن حسب التّصريحات الأخيرة لمسؤوليهم، فإنّ شغلهم الشّاغل هو الإرهاب “داعش”، ومن سار على دربه.
إشكال معقّد جدا لأنّ القاعدة القائلة بأنّ سلاح الجو بإمكانه حسم المعركة لم تتحقّق إلى يومنا، ولم تفصل في أي شيء يذكر، لأنّ الحرب كرّ وفرّ لتطرح استراتيجية أخرى ألا وهي التّفكير في عمل عسكري أبدت العديد من دول الخليج موافقتها عليه، وهو قرار سعودي في المقام الأول ستدرسه الولايات المتحدة، وهذا كلّه من أجل إجبار الرّوس على توقيف قصفهم بالرّغم من أنّها مغامرة تتطلّب الكثير من الحذر. والأمريكيون يتذكّرون جيّدا ما وقع لهم في الصومال، العراق وأفغانستان، لذلك من الصّعوبة بمكان القبول بذلك، وإنما سيقترحون صيغا أخرى في مواجهة “داعش”، ليست على طريقة مواجهات كلاسيكية ولكن في شكل فرق عسكرية (كوماندوس) لتصفية قيادات “داعش”. والمشكل ليس في سوريا وإنما في الموصل بالعراق، وما قاله “كيري” خلال الأيام الماضية أنّ ما يقلق الولايات المتّحدة في الوقت الرّاهن هو رحلات رجال “داعش” من سوريا والعراق باتجاه ليبيا، أي البحث عن استقرار هذه الجماعات في مكان آمن. ولابد من الإشارة هنا، إلى أنّ عقول “داعش” لم تغادر أبدا تلك البلدان، لأن الظّروف الحالية لا تساعدها على ذلك، كل المنافذ مغلقة ولا تصل إلى ليبيا بالسّهولة التي ترغب بها، هذا مجرّد تهويل لأنّ هذا التّنظيم يبحث حاليا على إعادة التّمركز والانتشار لاستعادة ما ضاع منه، إنّه مشهد سياسي وعسكري غريب في تلك المنطقة.