قبل أسبوع بدأ الرئيس الأمريكي باراك أوباما ولايته الثانية، ومعلوم أنّ تنصيب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يحظى دائما بالاهتمام والمتابعة لما لهذه الدولة من تأثير وهيمنة على العالم، حتى أنّ هنالك من يعتبر رئيسها، زعيما للعالم أجمع يحرك دواليبه وفق ما تقتضيه مصالحها لا أكثر ولا أقل.
أوباما الأسمر سيمضي إذن أربع سنوات أخرى في البيت البيض وهذا بتزكية من أغلبية الشعب الأمريكي الذي صوّت عليه في انتخابات نوفمبر الماضي وجدّد فيه الثقة ليواصل سياسته التي استطاعت داخليا أن تحقّق بعض الانجازات الهامة، وتعيد خارجيا للعالم الكثير من الهدوء بعد أن حرص على عدم الانخراط في أيّ نزاعات إقليمية، وقرّر وضع حد لصخب الأسلحة وضجيج المقنبلات وإنهاء الحروب التي أشعلها سلفه هنا وهناك بذريعة محاربة الإرهاب، والتي زادت من مساحة النقمة على أمريكا.
أوباما الذي انتخب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة في نوفمبر 2008، لم يجد يومها الأرض مفروشة بالورود أو معبّدة بالرياحين، بل على العكس تماما حيث اصطدم بإرث ثقيل ورثه عن إدارة “جورج بوش” الجمهورية لعلّ أخطرها الأزمة المالية التي كادت أن تدخل اقتصاد أقوى دولة في العالم مرحلة الإنعاش بل الاحتضار، وما أنتجته هذه الأزمة من انعكاسات مدمرة على المستوى الاجتماعي، حيث وجد ملايين الأمريكيين أنفسهم معرّضون للطرد من بيوتهم بعد أن عجزوا عن تسديد أقساطها، وفقد الملايين وظائفهم وتفاقمت حدة البطالة حتى أنّ نسبتها العالية لم تسجّل في أي ولاية رئاسية منذ عهد الرئيس “فرانكلين روزفلت” عام 1936، والتي تصادفت والصدمة الاقتصادية العالمية.
إرث ثقيل ومهمة صعبة
لقد اصطدم “أوباما” بكمّ هائل من الصعوبات والتحديات التي تمس جميع مناحي الحياة، وأدرك للوهلة الأولى بأنّ مهمة شاقة تنتظره لإنعاش الاقتصاد وتفادي الوقوع في الهاوية المالية، وإنقاذ ما يمكن من المؤسسات والشركات والمصانع حتى لا تقع بين مخالب الإفلاس وتزيد طين البطالة بلة.
وفعلا لقد استطاع الرئيس الأسمر أن يعيد بعض الاطمئنان والسكينة للشعب الأمريكي، وأن يرسّخ المكانة الأمريكية في سدة الزعامة العالية، ويحافظ عل تفوقها برغم المنافسة الشرسة التي أصبح يفرضها التنين الأصفر، وروسيا الناهضة ودول أوروبا المتقدمة.
وإذا كان بعض الخبراء والمحللين السياسيين يعتقدون بأنّ “أوباما” لم يحقق الكثير في ولايته الأولى، وبان عليه أن يصحّح إخفاقاته في عهدته الثانية، فإنّ مراقبين آخرين وعلى العكس تماما، يقدّرون الظرف الذي جاء فيه إلى الحكم وحجم التحديات التي واجهته، ويجزمون بأنّ أي رئيس مهما كانت كفاءته لن يكون في مقدوره تحقيق ما أنجزه، خاصة مع اصطدامه في كل مرة بجدار الجمهوريين الذي شكّل عائقا حقيقيا حال دون تمرير العديد من البرامج والخطط.
ويكفي ــ كما يضيفون ــ أنّ أوباما أنقذ أمريكا من الهاوية المالية وتمكن من إعادة الاقتصاد إلى السكة، وقام بتأميم اكبر شركة سيارات في العالم بضخ الأموال العمومية فيها وتمكن من إنقاذها من الإفلاس، كما أنّه قاوم بشراسة من أجل تمرير قانون الصحة وعمل على تقليص حجم البطالة ومواجهة مشكلة الهجرة والطاقة.
ويقرّ هؤلاء بأنّ الكثير من التحديات لازالت تواجه الرئيس الأمريكي في ولايته الجديدة التي سيستغلها حتما لمداواة الاقتصاد المعتل، والخروج كلية من الأزمة المالية، ليلتفت أكثر إلى قضايا أخرى لا تقل أهمية كمتابعة برنامجه للضمان الصحي، وتقييد استخدام السلاح الذي أصبح يشكل قضية وطنية في غاية الخطورة، ومواصلة محاربة البطالة وتوفير مناصب الشغل.
رجل إطفاء أخمد حروب “بوش”
أما خارجيا فقد تبنّى “أوباما” سياسة أكثر هدوء وحكمة، حتى وإن كانت مفاتيحها ومبادئها وتوابثها لم تتغير وهي تصب كالعادة في مصلحة أمريكا، ولعل أبرز ما يميز أوباما عن سلفه هو حرصه على عدم الانخراط في نزاعات خارجية، وأول ما بادر إليه هو إطفاء الحروب التي أشعلها بوش بعد أن أصبحت تشكّل عبئا ثقيلا على الاقتصاد الأمريكي وتكلفتها في الأرواح على محدوديتها، أضحت تثير نقمة المواطن الأمريكي الذي لم يعد يتردد في الخروج إلى الشوارع للمطالبة بوقفها، إضافة إلى أنّ هذه الحروب كانت لها انعكاسات سلبية على المكانة الأمريكية التي اهتزت بشكل كبير على مستوى العالم أجمع.
لقد باشر أوباما بمجرد دخوله إلى البيت الأبيض مهمة رجل الإطفاء، وحمل خرطوم الماء لإطفاء نيران الحروب “الدونكيشوتية” التي أشعلها سلفه هنا وهناك، وأصدر أمرا بإنهاء الحرب في العراق وسحب القوات الأمريكية في نهاية 2010، كما قرّر خفض القوات الأمريكية في أفغانستان تمهيدا لإنهاء الاحتلال عام 2014.
كما حقّق أوباما ما عجز بوش عن تحقيقه خلال ولايتين كاملتين من المطاردة، وهو القضاء على رأس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وهي ضربة اعتبرها كثيرون مزلزلة للتنظيم الإرهابي و بداية اندثاره، خاصة وأنّ تقارير مخابراتية جزمت بأنّ القاعدة في طريق الزوال...
الولاء لإسرائيل دائما وأبدا
أوباما ارتدى إذن بزّة رجل الإطفاء، وباشر إخماد النيران التي أشعلها سلفه في بلاد الرافدين والأفغان، كما أنّه سعى في البداية بنوايا بدت صادقة إلى تبني سياسة متوازنة ومحايدة لمعالجة القضية الفلسطينية، وبدأ تعاطفه مع الحق الفلسطيني المشروع خلال الخطاب الذي وجهه للمسلمين من القاهرة، كما ظهر تمسكه بضرورة أن يوقف الصهاينة بناء المستوطنات فوق الأرض الفلسطينية، لكن حديثه كان بمثابة هزّ لعش الدبور، فتلقى لسعات حادة أجبرته على مراجعة مواقفه ودفعها في اتجاه البوصلة الصهيونية.
وشهدنا كيف أنّ تصريحاته ومواقفه عادت لتجدّد الولاء لإسرائيل، وتؤكد الدعم والمساندة والحماية لها، وبالمقابل لم نشهد أي تقدم في اتجاه الاعتراف بالحق الفلسطيني، وحتى الإقرار بعضوية الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة قابلته إدارة اوباما بالرفض بعدما كانت لوحت بـ “الفيتو” عام 2011 لمنع مرور طلب الاعتراف بفلسطين إلى مجلس الأمن.
لا ثوابث...المصلحة فقط
صحيح أنّ السياسة الخارجية لأوباما تتميز بكثير من الهدوء، الذي عكسته مواقفه من حركة التغيير التي شهدتها ولازالت بعض البلدان العربية، فإدارته لم تنخرط كثيرا في هذه الحركة، ولم ترافع من اجل التدخل العسكري لحسم المعركة لهذا الطرف أو ذاك، وكان دورها في كثير من الأحيان متأخرا وضئيلا كما حصل مع تدخل الناتو في ليبيا، وكما يحصل مع التدخل الفرنسي في مالي حيث لا تبدو أمريكا في الصورة إلا من خلال بعض الدعم اللوجستي.
لكن أوباما يلتزم كغيره من الرؤساء بالمصلحة الأمريكية في تعاملاته الخارجية، لهذا لم نلمس تغيرا في موقفه من إيران أو من مسالة السلاح النووي، والحرب ضد الإرهاب.
ولاية جديدة تنتظر أوباما والمؤكد أنه سيستغلها أحسن استغلال لمواصلة إنجازاته الداخلية وهي كثيرة، كما أنّه سيعمل جاهدا للحفاظ على الريادة التي تحتلها أمريكا على الساحة الدولية.
إصلاح في الداخل وتهدئة في الخارج
أوباما يعيد ترتيب أولوياته في عهدته الثـــانية
فضيلة دفوس
شوهد:1570 مرة