تعاني الدول النامية ومنها الدول العربية من مشكلة الفساد السياسي التي تمتد آثارها السلبية إلى ميادين اجتماعية، اقتصادية والسياسية.
ورغم كثرة الحديث في هذه الدول على هذه الآفة وما تطرحه من آراء ومقترحات قصد التصدي لهذه المشكلة وتحليلها تحليلا علميا يسمح بتحديد جوهرها وأشكالها يبقى الفساد مستفحلا بها.
جوهر الفساد
يحدّد الفساد السياسي على أنّه سلوك قائم على الانحراف في الواجبات الرسمية المرتبطة بالمنصب العام سواء كان شغل هذا المنصب العام عن طريق التعيين أو الانتخاب في سبيل تحقيق مصلحة خاصة كتقاضي الرشاوي واستعمال المحسوبية، وبيع المناصب وشراء أصوات الناخبين...إلخ.
يعدّ فساد القمة من أكثر صور الفساد انتشارا في العديد من الدول النامية، حيث تقوم تلك القيادات بتحويل جزء كبير من الثروات إلى البنوك الغربية للاحتفاظ بها في حسابات سرية تكفل لهم العيش الرغيد إذا ما أطاح بها انقلاب عسكري أو ثورة شعبية.
ويتبادر إلى الأذهان ما حدث للزعماء العرب الذين عرفت دولهم حراكا اجتماعيا أطاحت بهم ومن قبل الرئيس الفلبيني ماركوس، الذي قدّرت أرصدته في البنوك الغربية وممتلكاته العقارية في الولايات المتحدة وبريطانيا فقط بما لا يقل عن 10 مليارات دولار، فضلا عن الأموال والمجوهرات خلال منتصف الثمانينات والتي فرّ بها إلى هاواي، وكذلك الرئيس السابق لهايتي (دوفالييه) الذي نجح في تهريب ثروة ضخمة إلى الخارج تبلغ 500 مليون دولار، حيث فرّ إلى فرنسا على متن طائرة أمريكية أين استبدل 100 ألف دولار من أحد البنوك بهايتي، وهو مبلغ ضخم مقارنة مع دولته الفقيرة.
ويوجد مسلك آخر يتيح للعديد من قيادات الدول النامية خاصة التي تتبنى سياسات إنمائية رأسمالية فرصة تكوين ثروات مالية ضخمة، بتقاضي رشاوي وعمولات من الشركات الغربية الاحتكارية من أجل تسهيل وحماية نشاطاتها الاستغلالية بهذه الدولة في صفقات مشبوهة.
ففي سنة 1967 حصل ماركوس على أكثر من 80 مليون دولار رشوة مقابل التعاقد مع الشركة الأمريكية “وستنجهاوس” لبناء أول محطة للطاقة النووية في الفلبين، كما تقوم القيادات الفاسدة بتسهيل الأنشطة غير المشروعة للأقارب كما كان عليه الوضع بالنسبة لمؤسسة بلهوي بايران رغم الواجهة الخيرية لها إلاّ أنّها كانت مجرد أداة لتنظيم الثروات الضخمة للشاه وأسرته وتنميتها، حيث كان يغطي أي عجز مالي لهذه المؤسسة على حساب الميزانية العامة للدولة.
ويلجأ العديد من القيادات بالدول النامية إلى تبديد الأموال العامة في الانفاق البذخي (القصور والثياب والسيارات الفخمة)، وهذه الظاهرة متواجدة حتى بأكثر الدول فقرا وتخلفا.
كما تشهد العديد من الدول النامية ظاهرة أخرى تعبّر أيضا عن مدى فساد قيادتها، وهي ظاهرة المحاباة للأبناء والأقارب في التعيين بالمناصب العامة في سعيها لإحكام قبضتها على السلطة خاصة المناصب الحساسة كالدفاع والخارجية والداخلية والمالية وغيرها.
أجهزة تنفيذية وقضائية تحت الاتهام
تمثل الأجهزة التنفيذية والادارية المأوى الطبيعي للفساد بصوره المتنوعة بأغلبية الدول النامية، ومنها الرشوة التي أضحت أمرا مألوفا وظاهرة اختلاس الأموال واستغلال المناصب للأغراض الخاصة كالأراضي والعقار والتهريب والتهرب الضريبي، إضافة إلى ظاهرة المحاباة التي تعاني منها الأجهزة التنفيذية والادارية بالدول النامية، وهي صورة من صور الفساد.
فساد الهيئة التشريعية
من صور فساد الهيئات التشريعية في العديد من دول العالم الثالث لجوء بعض أعضاء هذه الهيئات إلى استغلال النفوذ والحصانة البرلمانية في مباشرة أنشطة غير مشروعة تحقق لهم ثروات طائلة أو تقاضي رشاوي وعمولات من هيئات وشركات محلية أو أجنبية لتسهيل إصدار قوانين معيّنة تخدم مصالحها.
الفساد الانتخابي
تتّسم العملية الانتخابية بالدول النامية بتدخل الأجهزة الحكومية وتتلاعب نتائج الانتخابيات لضمان فوز مرشّحي حزب على آخر، والدعم المالي وتمويل الحملات الانتخابية لمرشّحي الأحزاب الموالية لحماية المصالح وكذلك ظاهرة شراء أصوات الناخبين.
ويمتد الفساد إلى الطبقة السياسية التي كثيرا ما تتورّط في فضائح مالية، وتتّصف العديد من الأحزاب في الدول النامية بأنّها مجرد تجمعات شخصية تتمركز حول شخص القائد وتدين له بالولاء والطاعة، ويقدم له العون والمساعدة مقابل تغاضيه عن فسادهم لاسيما إن كان القائد يجمع بين رئاسة الدولة والحزب الحاكم.
ولم تسلم أجهزة الأمن والجيش من هذه الظاهرة الخطيرة، حيث يحتضن الجيش في العديد من الدول صورا متنوعة من الفساد، تأتي في مقدمتها الرشاوي التي يتقاضاها كبار الضباط كالتهرب من أداء الخدمة العسكرية أو تسهيل عقد صفقات عسكرية مثل ما حصل مع نائب وزير الحربية في إيراني عام 1975، حيث وافق على عمولة قدرها مليون دولار من شركات السلاح الأمريكية وبموافقة الشاه، وكذا صفقة الدبابات مع بريطانيا عام 1971.
وقد يتحول العسكريون إلى مجرد مجموعات من “المرتزقة” الذين يضعون أنفسهم في خدمة من يدفع لهم أكثر من القوى الداخلية المتصارعة أو القوى الأجنبية الطامعة مثل الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس التشيلي السابق “سلفادور الليندي” من جانب العسكريين المأجورين من قبل شركة “التليفون والتلغراف” الأمريكية والمخابرات المركزية الأمريكية.
يمتد الفساد ببعض الدول إلى القضاء الذي يفترض أن يكون محايدا ومستقلا ممّا يؤدي إلى حرمان المواطن بها من حقه في التقاضي، وفساد القضاء يعني إخضاع القضاة للمغريات والضغوط المختلفة المادية وغيرها، وحرمان المعارضين من الحقوق والضمانات بما فيها حق الدفاع أو خضوع المحامين لضغوطات.
عوامل انتشار الفساد
يرجع تفشي الفساد في الدول النامية إلى عوامل داخلية سياسية وإدارية وقانونية واجتماعية واقتصادية وخارجية، ترتبط بدعم القوى الغربية للقيادات الفاسدة، إضافة إلى دور الشركات الغربية في الحياة العامة بهذه الدول.
من عوامل انتشار الفساد أيضا عدم وجود قوانين رادعة للظاهرة على الرغم من أنّ هناك قوانين موجودة من الناحية التشكيلية، غير أنّه في الواقع لا توجد عقوبات رادعة للمفسدين.
وشعوب الدول النامية التي ينتشر بها الفساد تدرك ذلك لكنّها تتّصف بالضعف وعدم الفاعلية نتيجة تفشي الأمية وغياب الصحافة الحرة، والتي تستخدمها القيادات الحاكمة في تزييف وعي الجماهير وصرف أنظارها عن المشكلات الجوهرية إلى مشكلات هامشية، فضلا عن غياب أو ضعف فاعلية الأحزاب السياسية وجماعة المصالح، فالرأي العام يتّسم بالضعف عن أداء دوره ووظيفته الحقيقية في ممارسة الرقابة، إضافة إلى تضخم قوة البيروقراطية والتفاوت الاجتماعي في توزيع المداخيل والثروات الوطنية، كلها عوامل لانتشار الفساد مضاف إليها دورالقوى والشركات الغربية الاحتكارية التي تغطي نشاطاتها الأجزاء عديدة من دول العالم الثالث.
الديمقراطية...الحل الممكن
تتّسم الآثار المترتبة على الفساد بالسلبية في كل الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فهو يؤثّر على الاستقرار السياسي ويجعل الفوضى هي السائدة ممّا يجعل المبرر لتدخل العسكريين في الحياة السياسية وعدم المشاركة السياسية الواسعة، وغياب العدالة الاجتماعية وعرقلة التنمية الاقتصادية.
إنّ المتغير الحقيقي الذي يسمح باستئصال الفساد وآثاره السلبية في الدول المتخلّفة عامة والدول العربية خاصة يرتبط بصلاحية القيادة السياسية، وذلك بتمتّع القائد السياسي بالنزاهة وعدم الأنانية وحسن اختياره لأعضاء النخبة السياسية، وغيرهم من رجال الدولة الذين لا يسيئون استخدام مناصبهم وإيمان القائد بالديمقراطية واحترامه للرأي العام، وتوفيره للمتطلبات اللاّزمة للمشاركة الشعبية إضافة للشرعية المستمدة من الاختيار الشعبي وليس القمع أو الدعم الأجنبي كي لا يثأر ضده مثلما وقع للعديد من الحكّام العرب نتيجة حكمه المطلق والمستبد.