مرت سنتان منذ أن أطلق البوعزيزي شرارة ما اصطلح على تسميته “بالثورات العربية”، وإذا كان من السابق لأوانه تقييم حصيلة التغيير الذي انتجته هذه “الثورات”، والاتجاه الذي اتخذتها رياحها، من الضروري الوقوف عند أهم النتائج المحققة التي تبدو ملامحها غير واضحة وحلقاتها غير مكتملة بفعل الفوضى والتوترات التي سكنت بلدان ما يعرف “بالربيع العربي” وهي تعيش مخاضا عسيرا للانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية كما قيل.
سنتان مرت على تلك الانتفاضة التي أطلق شرارتها جسد البوعزيزي وهو يحترق والتي سرعان ما تحولت إلى غضب شعبي زلزل أركان النظام التونسي ودفع بالرئيس بن علي إلى المغادرة، قبل أن يتحول هذا الغضب إلى إعصار مدمر، إمتد شرقا فهز أرض الكنانة ودفع بالرئيس حسني مبارك إلى التنحي وغربا ليضع نهاية دراماتيكية لقائد الثورة الليبية معمر القذافي.
ووجد الرئيس اليمني علي عبد اللّه صالح الذي واجه هو الآخر لما يقارب السنة سبيلا من الاحتياجات قشّة خليجية أنقذت حياته ومدته بالحصانة من كل أشكال المحاسبة، لكنها لم تنقذه من مغادرة الحكم من أضيق الأبواب.
ربيع بلون أحمر
هناك من يسميه بالربيع العربي ويعتبره حراكا شعبيا قويا الهدف منه إقرار أسس الديمقراطية والقضاء على أشكال الحكم الفردي المتسلط، وهناك في المقابل من يربط
هذا التغيير الذي اتخذ للأسف أشكالا دموية ومآساوية بمؤامرة خارجية، القصد منها إنهاء الشعوب والزج بها في متاهة من الصراعات والخلافات وإغراق بعض البلدان في دم أبنائها بفعل الاقتتال على السلطة.
وبعيدا عن جدلية المؤامرة العقيمة، من المهم ونحن نستهل السنة الجديدة أن نقف عند محصلة هذا الحراك العربي اللامتناهي ونقيّم نتائجه التي تبدو لدى الكثيرين بعيدة عن تحقيق ما كانت تصبو إليه »الثورات« ولا توازي ما تمّ دفعه من تضحيات.
لقد استطاعت رياح التغيير العربي أن تطيح بديناسورات مثلما قيل ظلت تحكم لعقود طويلة، والنتيجة كما نرى لا تبدو بسيطة، لكنها أيضا غير كافية لتحقيق الانتقال الكامل نحو الديمقراطية ودولة القانون، فالذي حصل بعد انهيار الأنظمة الحاكمة في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، أن البديل كان صعودا قويا للتيار الاسلامي الذين ركبوا قطار الثورة وهو يسير بدفع من الشباب، وتربعوا على سدة الحكم، وبسطوا سيطرتهم على المؤسسات التشريعية والتنفيذية، وأصبح الاخوان يقودون أكبر دولة عربية.
وإذا كانت هذه المحطة قد تحققت بشكل شفاف ونزيه وعبر صناديق الاقتراع، فإنها انتجت الكثير من الرفض عند الذين يتخوفون من حكم التيار الاسلامي، ويرفضونه جملة وتفصيلا.
وامتد الرفض ليتحول إلى “ثورة ثانية” في مصر التي مازالت تعيش مخاضا عسيرا في مرحلتها الانتقالية وتشهد عملية بناء مؤسسات الحكم بها تحديات كبيرة تحولت في الكثير من الأحيان إلى غليان شعبي ومواجهات عنيفة.
والمثير للاهتمام أن الاسلاميين وصلوا إلى السلطة التنفيذية حتى في البلدان التي لم تشهد ثورة ضد الحكم، كالمغرب مثلا، حيث حصدوا الأغلبية التشريعية، واستأثروا بقيادة الجهاز الحكومي.
التغيير بأي ثمن؟
سياسيا إذن تمخض الحراك العربي عن تغيير صب في جعبة »الاسلاميين« الذين وجدوا أنفسهم يحصدون ما زرعه الآخرون، أما في مناحي الحياة الأخرى. »أحداث الربيع العربي« هزات ارتدادية زلزلت اقتصاديات البلدان التي أصابتها عدوى الاحتجاجات والانتفاضات ضد الأنظمة الحاكمة، وزادتها ضعفا وانهيارا وهذا طبعا انعكس على الوضع الاجتماعي ما جعل المواطن العربي في هذه البلدان لا يلمس أي تغيير يذكر في حياته أو تحسن في معيشته، بل على العكس تماما، وهو ما يترجم السخط الكبير الذي أبداه الشعب التونسي تجاه الرئيس منصف المرزوڤي قبل أيام في ذكرى وفاة البوعزيزي.
وغير بعيد عن التدهور الاقتصادي والاجتماعي، فإن فاتورة التغيير تبدو باهضة وأشد ما تعانيه بعض بلدان »الربيع العربي« هو الانهيار الأمني التام، فليبيا مثلا التي تمت الاطاحة بقائدها بواسطة قوات »الناتو« لازالت تعيش حالة الفوضى الأمنية والميليشيات المسلحة تشكل بها ما يشبه الدولة داخل الدولة.
محصلة »الربيع العربي« في وجهها الايجابي أطاحت بأنظمة »ديكتاتورية« ظلت تحكم بإفلاس وضعف وتبعية، كما أنها غيرت الدساتير وحددت فترات الحكم ولم تتركها مفتوحة إلى اللحد، وأبعدت الخوف عن أفئدة الشعوب التي أصبحت تعبّر بحرية عن آرائها ومواقفها، لكنها في وجهها السلبي وفتّتت وحدة الشعوب، انفجرت النزعة القبلية والمناطقية (في ليبيا) والطائفية والدينية (في مصر) واتخذت »الثورة« منحنيات خطيرة في سوريا وتحولت إلى حرب أهلية غير معلنة بفعل إصرار النظام على التشبت بكرسيه، وتمسك المعارضة المسلحة بإسقاطه بالقوة مع عجزها عن تحقيق ذلك وإحجام الغرب عن التدخل العسكري لمساعدتها بفعل الفيتو الروسي والصيني، واكتفائه بصبّ الزيت على النار والتمتع برؤية النيران وهي تحرق بلاد وشعب الشام.
المؤكد أن الآراء ستتباين في تقييم حصيلة التغيير الذي شهدته بلدان الحراك العربي، وسبب التباين قد يكون مرتبطا في الأساس بقناعة هذا أو ذاك بالحراك، وموقفه المؤيد أو الرافض له، لكن تبقى الإشارة إلى أن الحكم على نتائج ما يسمى »بالثورات العربية« سابق لأوانه، فإرهاصات ما بعد »الثورة« كثيرة وإعادة ترتيب البيوت يستلزم سنوات، وهذا ما جرى بعد الثورتين الأمريكية والفرنسية، لهذا فإننا نتوقع فترة غير قصيرة قبل أن تستتب الأوضاع وتهدأ التوترات ليزهر »الربيع العربي«.
سنة أخرى تمر من الاهتزاز والتضحيات
متى يزهر “الربيـع العربـي”؟
فضيلـة دفـوس
شوهد:1754 مرة