بعد المصادقة على دستورها التّوافقي في السادس والعشرين من جانفي 2014، تستعدّ تونس لطيّ الفصول الأخيرة من المرحلة الانتقالية بتنظيم انتخاباتها الرّئاسية والتّشريعية في الخريف القادم. ولئن برزت تونس بالمقارنة مع نظيراتها من دول التّغيير العربي باعتبارها النّموذج الأقرب إلى النّجاح، فإنّ التحديات التي تواجه هذه التّجربة الواعدة بعد إنجاز “دستور الجمهورية الثانية”،وتعيين حكومة كفاءات لا تقل أهمية عمّا سبقها.
تبنّى المجلس التّأسيسي التونسي بداية الشهر قانون الانتخابات الذي من شأنه فسح المجال لتنظيم الاستحقاقات الرّئاسية والتّشريعية قبل نهاية العام الحالي، وبالتالي استكمال إرساء المؤسسات الدستورية القارة بعد أكثر من ثلاث سنوات من الإطاحة بالنّظام السّابق.
وكانت المناقشات بشأن هذا القانون قد بدأت يوم 18 أفريل الفارط، وتميّزت بخلافات عميقة حول الفصل الخاص بالعزل السّياسي لرموز النظام السّابق، ومنعهم من التّرشح للاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
وفي آخر المطاف توّجت المداولات البرلمانية بإسقاط مشروع العزل السياسي، واعتماد قوائم تكون مناصفة بين النّساء والرّجال في الانتخابات التّشريعية القادمة.
وإثر تبّني قانون الانتخابات، قال رئيس الهيئة الانتخابية المستقلة في تونس شفيق صرصار، إنّ الاستحقاقات المقبلة ستجري ما بين 16 و23 من شهر نوفمبر المقبل.
وتعهّد بأن تكون نزيهة ومطابقة للمعايير الدولية قائلا: “هناك عدة ضمانات لإنجاج هذه الانتخابات أهمّها قانون انتخابي يضع قواعد وفقا للمعايير الدولية، إضافة إلى دعوة ملاحظين دوليين سيتضاعف عددهم مقارنة بالانتخابات الماضية من عدة بلدان، من بينها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمكسيك والهند والبرازيل والاتحاد الافريقي”.
وفي الانتخابات الماضية في 2011 التي فازت بها النهضة، راقب الانتخابات حوالي 600 مراقب دولي، في حين من المتوقّع أن يتجاوز عددهم الألف هذا العام.
وأشار صرصار إلى أنّ الهيئة تأمل أن يرتفع عدد النّاخبين إلى ستة ملايين ناخب مقارنة بنحو 4.2 مليون ناخب أدلوا بأصواتهم في 2011 من إجمالي 11 مليون تونسي.
استئصال الإرهاب بكل الوسائل
حذّر شفيق صرصار من أنّ خطر الجماعات الارهابية يمثّل أبرز تهديد للاستحقاقات القادمة.
وقال: “هناك المخاطر الأمنية التي زادت هذه المرة خصوصا مع تزايد العمليات الارهابية وإحباط الشّرطة لهجمات إرهابيين، وتجميع السلاح وربما انتشارها في خلايا في بعض المدن”.
وبدأت قوات الأمن والجيش التّونسيين نهاية أفريل، مدعومة بطائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر، عملية عسكرية كبيرة لاستئصال إرهابيين على صلة بتنظيم القاعدة من جبل الشعانبي.
وبالموازاة مع مواجهة الدمويين عسكريا، مدّ الرّئيس التّونسي منصف المرزوقي يد العفو عن مسلّحي الشعانبي غير المتورّطين في القتل، ودعاهم إلى تسليم أنفسهم.
وقال المرزوقي في خطاب ألقاه أمام جنود خلال زيارته للمنطقة العسكرية المغلقة في جبل الشعانبي قبل أيام: “أوجّه رسالة الى المغرّر بهم، إن كانت أياديكم غير ملوثة بالدماء ولم تقتلوا تونسيين، فإنّ باب الصّفح مفتوح”.
تحديات لا تحتمل التّأجيل
تواجه تونس تحديات كثيرة وكبيرة، يكمن أهمها في الجانب الاقتصادي، وهي تحتاج لوضع علاجات سريعة لزيادة فرص العمل، حيث تتجاوز نسبة البطالة 15 بالمائة، والسّيطرة على الاسعار لتهدئة مطالب الشّارع، وحلّ الملف الأمني ما يسمح باستعادة ثقة المستثمرين الأجانب والمحليّين.
ويرى مراقبون للشّأن التّونسي أنّ إقرار الدّستور والقانون الانتخابي منح حكومة مهدي جمعة الذي زار عدة دول لطلب الدّعم والمساعدة،فرصة العمل على إيجاد علاجات للمشاكل التي يعاني منها الاقتصاد التّونسي، وأهم هذه المشاكل هي عجز الموازنة العامة والميزان التّجاري وارتفاع الأسعار ونقص فرص العمل، إضافة إلى مواجهة عمليات التّهريب.
ويبقى أكبر تحدّي تواجهه تونس هو محاربة الارهاب وإقرار الأمن.
آخر عتبة نحو الدّيمقراطية
ستكون الانتخابات المقبلة آخر المراحل للانتقال نحو ديمقراطية كاملة في تونس، التي أطلقت شرارة ما يعرف بانتفاضات الرّبيع العربي، وشهدت تقدّما سلسا في إعادة إقرار مؤسسات الدولة مقارنة بباقي دول التّغيير، التي دخل بعضها في احتراب داخلي وانجرّ أغلبها إلى صراعات وفوضى أمنية وتوتّرات سياسية مقيتة.
تونس، ورغم بعض الغيوم التي تلبّدت بها سماءها طيلة السنوات الثلاثة الماضية، استطاعت أن تتحسّس طريق الخلاص بفضل حكمة شعبها وتنازلات سياسييها، الذين آثروا مصلحة البلاد على مصالحهم الحزبية الضيّقة، فصادقت على دستور جديد في جانفي الماضي وبسطت إدارة مؤقتة غير متحزّبة تتولّى الحكم لحين انتخاب الشّعب لقيادة جديدة تقود البلاد إلى برّ الأمان.
وبرغم كل النّقائص والاخفاقات، فإنّ التجربة التونسية والتسامح الذي يبديه التونسيون يجب أن يكون نموذجا يقتدى به بالنسبة للدول التي أرادت التّغيير لكنّها ضلّت الطّريق.