لا بدّ من إجراءات ردعية ضدّ القوى المعرقلة للتسوية السياسية
تحاول «الشعب » من خلال حوارها مع السيد محمد عمرون أستاذ العلوم السياسية بجامعة تيزي وزو الإجابة عن جملة من التساؤلات المرتبطة بالتصعيد الذي تشهده ليبيا في هذا الظرف بالذات ،و العوامل التي تدفع بالقوى الخارجية لتأجيج الصراع الدموي بين الفرقاء هناك ، كما تسعى للبحث عن أسباب الإخفاق الأممي سواء تعلّق الأمر بتأخّر تعيين مبعوث دولي أو دفع العملية السياسية ، لتصل الى السؤال الجوهري و هو كيف يمكن للجزائر أن تساهم في حلّ الازمة الليبية و كيف تحمي نفسها من تداعياتها الخطيرة.
- الشعب: الليبيون ماضون في الاقتتال، فلا حرمة لرمضان ولا خشية من الوباء، ولا استجابة للمناشدات الدولية، فلم هذا التصعيد وفي هذا الظرف بالذات؟
الأستاذ محمد عمرون: في الحقيقة الوضع الحالي في ليبيا هو نتيجة منطقية للظروف المحيطة بهذه الأزمة، فالنتائج الهزيلة التي خرج بها مؤتمر برلين والذي بالكاد ثبّت هدنة هشة لم تدم إلا أياما، وغياب مبعوث أممي يدير عملية السلام منذ مارس الماضي مع تراخي المجتمع الدولي في التعامل بحزم مع مختلف التدخلات الخارجية، يضاف إلى ذلك الانشغال الدولي بمحاربة جائحة كورونا، كلها عوامل حفّزت طرفي النزاع سواء «حكومة الوفاق الوطني» أو «الجيش الوطني الليبي» من أجل العمل على تعزيز مواقعهما على الأرض وكسب مزيد من الانتصارات العسكرية قصد كسر عظام الخصم أو في أقل تقدير استخدامها كأوراق رابحة في أي مفاوضات مستقبلية، بل إن هذه العوامل أعطت فرصة لقوى إقليمية من أجل التدخل أكثر في الملف الليبي، وتوجيهه لصالحها، وما أن يعاود المجتمع الدولي الاهتمام بالملف الليبي سيجد واقعا مغايرا يكون مضطرا للتعامل معه، وبالتالي ما يحدث هو محاولة فرض أمر واقع جديد على الليبيين وعلى المجتمع الدولي للفترات المقبلة.
وفي النهاية من لم يراع حرمة دماء المسلمين لن يراعي حرمة رمضان، والوباء تحوّل إلى فسحة وسمح بتخفيف الضغط الدولي على طرفي النزاع، أما المناشدات الدولية فلا يمكن إلا أن تكون صرخة في واد ما لم تتبع بإجراءات عملية رادعة وملزمة للجميع، وهو الشيء المفقود في هذه الأزمة.
- الأمم المتحدة تندّد بالتّصعيد وتدعو للتهدئة لكنّها عاجزة عن تحريك عملية السلام أو تعيين مبعوث أممي، لم الإخفاق الأممي؟
واضح جدا أن الأمم المتحدة بات عجزها مزمنا في كثير من الأزمات الدولية، وهذا العجز الأممي في منطقتنا بالخصوص لا يتجلى في الأزمة الليبية فقط، بل يتعداه إلى الصراع العربي الإسرائيلي ونزاع الصحراء الغربية والأزمة اليمنية، فعندما يعجز هذا التنظيم عن تسمية مبعوثين أمميين كأدنى حد من المسؤولية الملقاة عليه في حفظ السلم والأمن الدوليين، فهذا يعكس بوضوح حالة الارتهان التي وصل إليها، والواقع يقول بأن هذا الإخفاق يرجع إلى أسباب بنيوية وأخرى وظيفية تعاني منها منظمة الأمم المتحدة منذ مدة طويلة، فبنيويا هناك مطالب عديدة ولمدة اكثر من عقدين تطالب بإصلاح هذه المنظمة التي باتت بشكلها الحالي لا تعكس طبيعة المجتمع الدولي، ورغم وجود اكثر من مقترح في رفوف الأمانة العامة للمنظمة، إلا أن ملف الإصلاح يبقى رهن إرادات القوى الكبرى المستفيدة من الوضع القائم، أما وظيفيا، فالأمم المتحدة باتت تحقق أجندات القوى الكبرى، وتحولت إلى أداة تبرير لممارساتها. أما في الحالة الليبية فالإخفاق الأممي يتضاعف، حيث تصارع إرادات القوى الإقليمية والدولية وتضارب مصالحها فاقمت العجز الأممي، وغاب في كل هذا، الدور الأمريكي الذي غالبا ما كان يحسم مثل هذه النزاعات، لذلك ففي ظل الوضع الليبي الراهن بكل تعقيداته لا يمكن انتظار أن تتحول الأمم المتحدة إلى مبادر بالحل بقدر ما تلعب دور المسكّن للأزمة.
- دول تتكالب على ليبيا وهي تؤجّج صراع الأشقاء الفرقاء هناك، هل تسعى هذه الدول إلى إشعال حرب شاملة وتتعمّد خلق بؤرة توتر في المنطقة المغاربية، أم أن وراء تكالبها صراع مصالح ونفوذ؟
للأسف هو كل ما تفضلتم به مجتمعا، فليبيا اليوم هي أزمة «ممتدة»، ممتدة زمنيا حيث تقارب العشر سنوات من بدايتها ولازالت تبحث عن بداية لمسار حل، بل هناك عودة متكررة لمربع الصّفر كلما ظن الجميع أننا حققنا تقدما، فتصريح المشير «حفتر» مؤخرا بإسقاطه للاتفاق السياسي المبرم مع حكومة الوفاق الوطني في سنة 2015، يؤكد أن الأزمة لازالت ممتدة زمنيا وتحتاج إلى مزيد من الوقت لكي تصل إلى الحل التوافقي، والأزمة ممتدة جغرافيا حيث آثارها واضحة على دول الجوار خصوصا في الجانب الأمني، كما أنها ممتدة من حيث الفواعل المتورطة في الأزمة وهي دول إقليمية وعالمية حاملة لمشاريع معينة، هذه الدول مستعدة للذهاب بعيدا من أجل تحقيقها.
لكن، ليبيا ليست فقط مشروعا قيميا وايديولوجيا لبعض القوى الإقليمية والعالمية، بل هي مخزون نفطي هام يجب التحكم فيه، تتصارع عليه دول وشركات متعددة الجنسيات، إذن ليبيا اليوم في قلب صراع إقليمي ودولي، صراع يتجه بتسارع كبير نحو اللعبة الصفرية، أدواته «السراج» و»حفتر»، ووقوده الشعب الليبي، ومحرّكه دول تدعم بالمال والسلاح، لينتهي بنا المطاف بهذا الإخراج البئيس لدولة لها كل مقومات النجاح تتحول بسرعة إلى دولة على حافة الانهيار.
- تحاول الجزائر جاهدة كبح جماح الاقتتال في ليبيا وتحريك عجلة السلام، لكن هناك من يعرقل جهودها، فما الوسائل الممكنة أمامها لدفع الأشقاء إلى الانخراط الجدي في العملية السياسية؟
لقد تعرض الموقف والدور الجزائري منذ بداية الأزمة الليبية للكثير من التحامل والضغط من دول حاولت إضعافه وإبعاد الجزائر عن أي حل مرتقب، خاصة مع رفضها لتدخل حلف الناتو و عسكرة الحل ، لكن الجزائر حاولت مرارا البقاء منخرطة في إيجاد حلول للأزمة الليبية، فبادرت بإنشاء آلية دول الجوار الليبي، قصد التنسيق بين هذه الدول، وشجعت الاتحاد الإفريقي من أجل انخراط أكبر في الأزمة الليبية، ثم حاولت استعادة المبادرة من خلال اجتماع برلين الأخير والتحرك والاجتماع بكل الأطراف الليبية بما فيها القبائل الليبية، وتم طرح اسم الديبلوماسي الجزائري «رمطان لعمامرة» كمترشح لخلافة المبعوث الأممي المستقيل «غسان سلامة»، إلا أن كل هذه المساعي اصطدمت بقوى مقاومة لأي «دور جزائري بارز في الأزمة الليبية» وقد عبّر الرئيس الجزائري «عبد المجيد تبون» عن استيائه صراحة من هذه الأدوار السلبية لمجموعة من الدول تجاه الدور الجزائري والأزمة الليبية في آخر لقاء له مع الصحافة الوطنية.
في اعتقادي على الديبلوماسية الجزائرية أن تعتمد على ثلاث نقاط في تعاملها المستقبلي مع هذا الملف وهي: المبادرة، العمل الجماعي، الحزم، بالنسبة للنقطة الأولى ، على الجزائر أن تستمر في المبادرة وتقديم المقترحات للفرقاء الليبيين، ومزاحمة القوى الإقليمية والعالمية التي تريد الاستفراد بالحل، وهو ما من شأنه تثبيتها كطرف غير قابل للاستبعاد من أي حل مستقبلي، أما النقطة الثانية فهي مرتبطة بالأولى بحيث أن العمل على إشراك عدد أكبر من الدول التي تقاسم الجزائر نفس التصور في أي مبادرة سيجعل تأثيرها أكبر وأقوى، كما أن الثقل الجزائري في الاتحاد الافريقي يجب أن يستغل في هذا الاتجاه، أما النقطة الثالثة فهي متعلقة بضرورة التعامل بحزم وبصرامة مع كل القوى المعرقلة للمبادرات الجزائرية أو الساعية لتقزيم هذا الدور، سواء في الداخل الليبي أو من خارجه كون أن المسألة مرتبطة بفضائنا الحيوي والاستراتيجي.
- في حال تصاعدت الحرب في ليبيا، ما هي تداعياتها على الجزائر والإقليم، وكيف السبيل للحماية من ذلك؟
الحرب الحالية مكلفة للشعب الليبي وتصاعدها سيكون مدمرا للمجتمع والدولة معا، كما أنها ستكون مُرهقة لدول الجوار، ومن دون شك ستتفاوت درجة تأثير هذه الحرب من دولة لأخرى بحسب إمكانياتها وارتباطها مع الملف الليبي. الجزائر تدرك أن الحرب في ليبيا هي تهديد مباشر لأمنها القومي، لذا فإن تعزيز القدرات العسكرية والاستخباراتية على الحدود الشرقية أمر متوقع في مثل هذه الظروف، من أجل حماية العمق الجزائري من أي اختراق كان، كما أن التنسيق بين دول الجوار يحجّم من آثار هذه الحرب، خصوصا وأن العديد من هذه الدول ذات إمكانيات محدودة وهي تتطلع إلى دور قيادي للجزائر باعتبار الخبرة والقدرات التي يتمتع بهما الجيش الجزائري، وهو دور وإن كان مكلفا بعض الشيء إلا أنه حتمي وضروري.
- إلى أين تمضي ليبيا مع هذا التصعيد ؟
الحل في ليبيا لم يحن بعد، والتطورات الأخيرة تؤكد اتجاه الأزمة نحو مزيد من التعقيد، لكن يبقى حدود هذا التصعيد وإلى أي نقطة يمكن للأطراف أن تصل إليه في صراعها، هو الذي يحدد اتجاه الأزمة، كما أن عدم قدرة أي طرف من طرفي النزاع حسم المعركة لصالحه سيزيد من عنف المعارك وحدتها، وهنا مسؤولية الأمم المتحدة كبيرة في الإسراع بتعيين مبعوث أممي إلى ليبيا توكل له سريعا وكمهمة استعجالية إيقاف دوي الرصاص، بعدها العمل على دفع الأطراف الليبية للجلوس مجددا الى طاولة المفاوضات، والحد من التدخلات الخارجية، خصوصا ما تعلق بإرسال السلاح والمرتزقة إلى الأراضي الليبية، غير ذلك سنكون أمام حرب مفتوحة نعلم كيف بدأت ولا ندري كيف تنتهي وبأي ثمن؟.