إدارة الأزمات في سياق استثنائي من قبل الأمريكيين، لا يختلف بتاتا عن الفترات العادية، تترجم في نهاية المطاف مسار توجهات السياسة الخارجية المبنية على ذهنية إخضاع الآخر للإملاءات المفروضة أفقيا، حفاظا على ذلك الهامش غير المحدود من المصالح الذاتية المندرجة في إطار الاستيلاء على ثروات الشعوب، والفضاءات الحيوية وحماية الأنظمة الموالية لها، والأمثلة لا تعد ولا تحصى في هذا الشأن.
ما يحدث حاليا مع منظمة الصحة العالمية، يعد أنموذجا حيا لما أوردناه سالفا. ترامب لم ينتظر تعافي بلاده في جائحة كورونا لاتخاذ قرار تأديب رئيسها السيد تدروس أدانوم غيريبسوس والفريق العامل معه جراء ما اعتبره إنحيازا أعمى للصين وسوء تقديره للعواقب الوخيمة الناجمة عن استفحال الوباء، دون إعطاء المعلومة الصحيحة القادرة عن اتخاذ التدابير اللازمة في حينها.
أولى ضحايا هذا النزاع المؤسساتي الذي أثارته الإدارة الأمريكية، توجه إلى منظمة الصحة العالمية وليس مع بلد معين قائم بذاته، وإنما كل ما في الأمر أن الإنتقام والإستهداف صريح هنا وغير مباشر وبدون لفّ أو دوران؛ يعني طرفان: المنظمة والصين. ولا بد من التأكيد هنا، بأن الحصار يزداد أمريكيا وأوروبيا، والقاسم المشترك بين هؤلاء ما شددوا عليه أو ما أسموه بـ «المساءلة»، تارة يوجه الكلام إلى الصين، وتارة أخرى إلى المنظمة، وثنائية الإتهام هذه حقا، قد لا نتفطن لنواياها، ما لم ندقق في التصريحات المغرضة الصادرة عن أوساط سياسية وإعلامية أمريكية، ذهبت إلى حد إتهام الحزب الشيوعي الصيني وتحميله مسؤولية ما يقع حاليا في العالم، ناهيك عن كلام غير مسؤول لا يليق في هذا المقام.والأكثر من هذا، فإن هناك محاولة يائسة قصد بعث تحالف دولي ضد الصين، على أن هذا البلد أخفى الحقائق عن الأمريكيين والأوروبيين فيما يتعلق بالفيروس. وما يثير الدهشة والاستغراب، تلك المواقف المتغيرة بسرعة البرق من مؤيد إلى معارض، حتى وإن يدرج ضمن استراتيجية لما بعد مرحلة كورونا، إلا أن الأخلاقيات السياسية تنبذ مثل هذه التناقضات الصارخة.
ولا يفهم من هذه الحملة الشعواء المدشنة في عز هذه الأزمة الصحية، سوى ممارسة المزيد من الضغوط الرهيبة على الصين عبر منظمة الصحة العالمية وحملها على إخلاء بعض المجالات الحيوية المتواجدة فيها. والأدهى والأمر هنا، هو أن المسؤولين الكبار الأمريكيين يتلاعبون بالأرقام، فيما يتعلق بمساهمتهم في المنظمة، على غرار قولهم إن ما يضخونه يتراوح مابين ٤٠٠ و٥٠٠ مليون دولار، فإنهم أشاروا إلى أن مساهمة الصين ٤٠ ميلون دولار فقط، ولا ندري لماذا هذه المقارنة التي لا أساس لها!؟ بإمكان الصين مضاعفة حصتها المالية إن طلب منها ذلك، وهنا لابد من القول إن منظمة الصحة العالمية تبحث عن البدائل المالية حاليا لسد الثغرة التي أحدثها الأمريكيون. وإن كان الظرف الراهن صعبا قد يؤدي إلى تحفظ الكثير بحكم ما يعصف باقتصاديات العالم، والآثار الناجمة عن تلك الهزات القوية، فإن الخيار الذي يفرض نفسه هو عدم ترك المنظمة تنهار، لذلك فإنه ما يجلب الانتباه له هنا هو ما تم تمريره من رسالة مشفرة مفادها، إعادة هيكلة (تصحيح وتعديل) المنظمة، وهذا في حد ذاته دعوة صريحة قصد إبعاد الطاقم الحالي من مسؤولية التسيير وإحلال محله فريق آخر.
وعلينا أن نعي هنا بأن خلفيات ما يحدث لا يتعلق بالأبعاد الإنسانية، بقدر ما يرمي صانعوها إلى رفض رفضا قاطعا تغيير منطق العلاقات الدولية في مسارها الذي فرضه الكبار منذ عهد المستعمرات والحرب العالمية الثانية وما تولد عنها، كالحرب الباردة والتطاحن الإيديولوجي وسباق التسلح، تلاه إنهيار جدار برلين وسقوط المنظومة الاشتراكية بكل لواحقها الأمنية، السياسية والاقتصادية، وهو ما يعرف بالحفاظ على الوضع الراهن، ماذا يعني ذلك؟.
الجواب على هذا السؤال لا يستدعي الولوج في معادلة التعقيد، خلاصته إبقاء مربع الريادة مغلقا، يرفض اقتحامه إلى درجات غير التي موجودة حاليا، والمصنفة وهميا... ومهما تكن الظروف فإن الشعار المتبع هو الحفاظ على هذا الترتيب التقليدي في العلاقات الدولية.
الصينيون فهموا فهما دقيقا هذه الحسابات ويدركون جيدا أن إعادة الإنتشار على المستوى العالمي كفيل وحده أن يمنحك الصدارة في صناعة الأحداث، دون طلب الإذن من أحد وهذا ما يتبعونه حاليا.
فاختيار ترامب هذا المسار المغامراتي، كشف عن تداعيات إدارة أزمة صحية إنسانية بامتياز بديكور سياسي محض، كله من أجل التغطية على أوضاع داخلية قلقة جراء الوفيات والإصابات القياسية في الولايات المتحدة.
ومهما يكن، فإن الرأي العام الأمريكي لا يتمتع حاليا بالقدرة الكافية للإستماع إلى صقور البيت الأبيض في خطاباتهم المتوجهة للآخر، ففي خضم سيادة الخوف وانتشار الهلع، يستحيل ترميم أي رسالة، مهما كانت قوة تأثيرها، الجميع يبحث عن طوق النجاج حاليا ولا يهمه ما يقال هنا وهناك... ناهيك عن النقاش السياسي الشرس بين التيارين الجمهوري والديمقراطي حول كيفية تسيير دفة البلد.
وعليه، فإن ترامب لم يغير قيد أنملة أسلوب تعامله أو إدارته للأزمات، بل بقي وفيا لخطه الأصيل الذي افتتح به عهدته ألا وهو المواجهة المباشرة مع الآخر، من أجل إحداث التوازن في طبيعة الإشكال القائم، وهذا ما يسجل اليوم مع «مأساة كورونا» عندما فتح جبهتين داخلية وخارجية، الأولى استعمل فيها خطابا لينا حاول فيه إقناع الأمريكيين بما لحق بهم، إعتمادا على الإجراءات المتخذة. والثانية زاد فيها من شحنة إلصاق التهم بالآخرين مركزيتها الصين، ثم قرنها بمنظمة الصحة العالمية، لتكتمل دائرة المواجهة بين القطبين. ولابد من القول هنا بأنه إستطاع أن يجد المنفذ والأريحية في الخيار الثاني، خاصة مع ردود الفعل المسجلة، دعّم ذلك باتخاذ إجراءات ردعية ضد العامل الثاني أي المنظمة، أما الأول الصين فلازال يبحث عما يقرره بناءً على ما طلبه من تحريات بشأن الوباء، معتقدا بالفرضية التي مفادها محاولة تكسير البنية التحتية لأمريكا، أي مخطط تآمري لضرب الولايات المتحدة.