تهيمن التحاليل الاستشرافية لما بعد فترة تفشي وباء كورونا على مشهد العلاقات الدولية باتجاه الوقوف على عالم متغير تغيرا جذريا من زاوية التصنيفات في القيادات الكاريزماتية في صناعة أو التأثير على القرارات في شتى القطاعات الاستراتيجية كالتجارة، المالية، الصناعة وكل ما يشتق من الاقتصاد بصفة عامة.
واستنادا إلى هذا التوجه الجديد، الذي يريد البعض رفضه لاحقا وفي قالب مختلف، فإن هناك بداية عمل منسق للتشويش على الصين، بابعادها من تولي المراكز الأولى ودحرجتها الى مستويات أدنى. نلمس هذا من خلال التصريح الأخير لوزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو، الذي قال إن الظرف الحالي لا يسمح بفرض أي شيء على الصين.
وهذه رسالة واضحة المعالم بأن هناك من يسعى لاعتراض الانطلاقة الموفقة للصين في السياق الراهن في مرافقة الشعوب المتأثرة بفعل «كوفيد-19» وتخفيف عنها العدوى بمدها بكل ما يلزم من الأجهزة الطبية وهذا ما ينطبق على أمريكا نفسها التي استقبلت طائرة محملة بالعتاد الصحي القادم من ذلك البلد في الوقت الذي كان فيه ترامب يتوقع الصعب يوميا ويبحث عن الأقنعة والآلات الاصطناعية للتنفس.
هذا المؤشر المذكور سالفا، كفيل بأن يؤسس ضمنيا لمرحلة حساسة وشائكة في آنٍ واحد، يكون الصراع على أشده والمنافسة حاسمة في إفراز معالم الصدارة في العلاقات الدولية لأول وهلة تبنى على ثلاثة فاعلين روسيا، الصين والولايات المتحدة في الطابق الأول، تليها قوى أخرى على مستوى الطوابق الدنيا من الصعوبة بمكان ترتيبها. غير أن ألمانيا الأكثر حضورا في هذا المسعى، انطلاقا من قدرتها الفائقة على تسيير جائحة كورونا بمنهجية دقيقة سمحت للمستشارة ميركل بأن تتحدث عن الوضعية المستقرة والانحسار وهي بوادر قصد عودة الحياة الطبيعية، مثلما هو الأمر في الصين.
والمسار المراد له أن يكون غدا، يطبخ حاليا في مخابر الولايات المتحدة بإحكام وفي هدوء بعيدا عن الضوضاء والبهرجة مغلف بديكور فيروس كورونا حتي لا يجلب إنتباه أحد. لكن ما يصدر عن ترامب في كل مواعيده الإعلامية اليومية المتعلقة بتقييم آثار الوباء من رسائل غير معلنة، توحي بأن التضييق سيزداد خلال الآفاق القادمة في شكل تحاذبات جيوسياسية، أرضيتها غلق مجال التحرك على كيانات أظهرت المزيد من الإرادة في استقطاب خيارات التفاعل الجدي مع التحولات الراهنة.
ولا يوجد غالب ومغلوب اليوم، كل ما في الأمر أن العالم لم يخرج من نزاع مسلح أو مدمر بين قوى أيديولوجية لتقسيم المعمورة لأقطاب بالمفهوم المذهبي المتولد عن الحرب العالمية الثانية، ليس بإمكانها التهليل للانتصار بهزيمة طرف آخر ظاهر للعيان، إنما ماحدث هو بلد كالصين فرض نفسه كأنموذج في إدارة أزمة صحية لا تبقي ولا تذر، استطاع الخروج منها بأقل الأضرار التي فعلا لم يتحملها البعض، محوّلا اتجاه الوضع الجاري الى إشكال قائم في قضية ذات أبعاد إنسانية. لذلك نصح الصينيون ترامب بعدم تسييس الأمر، وهذا من حقهم، في حالة ما اذا نظرنا إلى مجريات الوقائع على أن الملف صحي بامتياز، ولا يحق لأي أحد إدراجه في الخانة السياسية، بالانتقام من منظمة الصحة العالمية وإدخالها في أزمة هي في غنًى عنها، كحرمانها من المساعدة المالية الأمريكية المقدرة بحوالي 500 مليون دولار.
وفي حد ذاته استمرارية للمنطق الذي دأب عليه ترامب منذ توليه مقاليد الحكم، عندما شنّ حملة شعواء على المنظمات التابعة للأمم المتحدة على أنها ممولة أمريكيا، لكنها ضد الولايات المتحدة.
وفي عز هذه الأزمة، يثير ترامب مشكلا خطيرا جدا، يتعلق بمؤسسة منخرطة حاليا في عملية المتابعة ماديا وتحسيسيا لتطورات الفيروس.
كل هذه التبريرات السياسوية المثارة حاليا، ليست من الأولويات الملحة، تتطلب أن توضع جانبا ريثما يتم الانتقال إلى وضع مريح، لمحاسبة فلان أو علان. الشغل الشاغل خلال هذه الساعة، هو كيفية التخلص من هذا الفيروس الفتاك وإنقاذ البشرية من عدوى هذا الوباء. غير أن فتح جبهة جديدة مع الصين، يكشف بأن الأمركيين يعترضون بشدة ان يحتل هذا البلد صدارة قيادة العالم بتوجهات ومبادئ مخالفة لنظيرتها القائمة على ذهنية الإحتكار والاستغلال.
في حين أن الصين تبني سياستها الخارجية على التعاون والتضامن واحترام القرارات السيادية للشعوب. هذه المنظومة من القيم، أحرجت كثيرا الغرب. وخوفا من ترامب أن تصاب بلاده بالوهن وتخرج منهوكة القوى من هذا الوضع الصحي الذي طال أمده، فإن صقور البيت الأبيض يعدون كل السيناريوهات المحتملة حتى لايترك أي هامش للآخر... لإحلال محلها في الفضاءات الحيوية بالعالم.
وحاليا، فإن الأوساط المتابعة لشأن العلاقات الدولية تتحدث عن إرهاصات انهيار الهيمنة الأمريكية على القرار. وقد شعرت ذلك من خلال سخطها على منظمة الصحة العالمية واتهام إياها بالانحياز، وستتوضح الرؤية أكثر لاحقا مابعد مرحلة كورونا.