الدبلوماسي الصحراوي ماء العينين لكحل لـ «الشعب»:

وفاة أمحمد خداد خسارة للغة العقل والحكمة

أجرى الحوار: حمزة محصول

النضال الصحــراوي لن يتوقــف بـــزوال الرجـال

 فقدت الدولة الصحراوية، في الأيام القليلة الماضية، أمحمد خداد، أحد رجالات كفاحها المستميت من أجل تقرير المصير والاستقلال؛ رجل أعطى الكثير للقضية العادلة وقدم أنموذجا فريدا في المقاومة السلمية والنضال الدبلوماسي على أعلى مستوى.
شغل خداد عدة مناصب قيادية، آخرها منسق جبهة البوليساريو مع بعثة المينورسو، إلى جانب كونه عضوا في الفريق الصحراوي المفاوض.
في هذا الحوار، يتحدث الدبلوماسي وسفير الدولة الصحراوية لدى بوتسوانا، ماء العينين لكحل، عن قيمة ومكانة الراحل في حركة التحرر الصحراوية.

ماذا يمثل فقدان دبلوماسي عبقري، لا يتعب، بحجم امحمد خداد بالنسبة للجمهورية العربية الديمقراطية الصحراوية؟
ماء العينين:قال الحق جل وتعالى في سورة البقرة: «وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ  ۖ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)».
بالتأكيد أن فقدان المغفور له، بإذن الله، أمحمد خداد، هو حدث جلل وموجع لجميع أبناء الشعب الصحراوي، بل ولجميع أصدقاء الشعب الصحراوي ولكل من عرف الشهيد عن قرب في أوساط عالم السياسة والدبلوماسية وحقوق الإنسان على مستوى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وعدد كبير من الدول. فلقد كان الرجل فردا، لكنه بعمله وتجربته كان مجموعة كاملة من الرجال، حيث جسد بحق مقولة الشهيد الولي الذي أوصى الصحراويين أن يوازنوا نقص عددهم بالنوعية، كما كان يقول.
 ورغم كل مسؤولياته ظل أمحمد، رحمة الله عليه، دائما مناضلا بسيطا، متواضعا ومثقفا متابعا لجميع تطورات العالم وخاصة تأثيرات هذه التطورات على القضية الصحراوية عموما. إذن، فقدانه خسارة كبيرة لنا كصحراويين، وللسلام في المنطقة، وللغة العقل والحكمة، التي عرف، رحمه الله، بهما. لكننا لا نعترض على قضاء الله وقدره، فإذا كان أمحمد خداد قد غاب عن عالمنا بجسده، فستظل روحه، وأفعاله، وإنجازاته، ومساهماته الكثيرة والمتعددة الأوجه في نضال شعبنا إرثا بارزا تملكه أجيال الصحراويين إلى الأبد.
رأينا كيف كان الراحل يقوم بجولات دولية لا تنتهي للتعريف بالقضية وتنسيق العمل مع المينورسو ودول عظمى مثل روسيا وبريطانيا، ما حجم الإرث الذي تركه الفقيد للعمل الدبلوماسي الصحراوي؟
لقد كان، رحمه الله، أحد أعمدة العمل النضالي والسياسي والقانوني والدبلوماسي والاقتصادي وحتى الإداري في التجربة الصحراوية. لم يكن رحمة الله عليه يكل ولا يمل من بذل الجهد، متكبدا الأسفار الطويلة، والرحلات المتعبة لأداء مهامه أينما ناداه الواجب. ولربما عرفه العالم فقط كقائد سياسي ودبلوماسي صحراوي، لكن ما يجهله الكثيرون أنه، رحمة الله عليه، لم يترك تقريبا أي مجال من الفعل النضالي إلا وأدى فيه ما استطاع، وبجدارة بشهادة الجميع.
 فلقد بدأ مشواره النضالي رحمة الله عليه، بأن تخلى عن دراسته في الهندسة بالجامعة الجزائرية في السبعينيات ليلتحق بالثورة بعد أن انخرط فيها طالبا، وعمل في خلاياها السرية بداية السبعينيات بتنسيق مع مؤسس الجبهة الشهيد الولي مصطفى السيد شخصيا، وبقية رفاقه. ثم نشط كطالب في الفعل النضالي والشبابي، ولم يلبث أن كلفه الشهيد الولي بالعمل الدبلوماسي للبحث عن الاعتراف بكفاح الشعب الصحراوي في مختلف دول العالم، ليكون بذلك من أول الدبلوماسيين الصحراويين الذين عملوا في أوروبا، نظرا لإتقانه اللغات الأجنبية، التي نذكر أنه كان يجيد أربع لغات أساسية منها وبطلاقة.
ليعود مرة أخرى لمخيمات اللاجئين ليمسك ملفات جد حساسة مثل الأمن في مرحلة مفصلية من تاريخ الثورة الصحراوية، ثم والي ولاية. ونتيجة لقدراته الفكرية والإدارية كلفته القيادة الصحراوية، وعلى رأسها الرئيس الشهيد محمد عبد العزيز، الذي كان يثق فيه ثقة عمياء، بجميع الملفات الحساسة آنذاك تقريبا، من تنسيق مع المينورسو، ومع المنظمات الأممية الأخرى، ومن إشراف شخصي على عملية تحديد الهوية، ليكون بذلك مهندس مؤسسة الإحصاء الوطني الصحراوية، وليتابع شخصيا أيضا ملفات حساسة وكبيرة مثل ملف حقوق الإنسان، والثروات الطبيعية وغيرها كثير.
الجميل والمؤثر في مسيرته رحمه الله أنه كان يعمل في الظل في الكثير من هذه الملفات، ويدفع بالكثير من المناضلين والدبلوماسيين الشباب إلى الواجهة لصقل تجاربهم وتمكينهم من العمل فيها، وقد اشتغل مع الكثير منهم في مختلف هذه الملفات، وكان يقدر بشكل كبير ولافت للنظر كل مجد مجتهد، ويدافع عنه، ويرافقه في تطوره رحمه الله بروح رفاقية وأخلاق عالية جعلته محبوبا للجميع.
إذا، أقول بأن أمحمد خداد كان دائما في ريادة عمل الجبهة، والفاتح الأول لعدة جبهات نضالية جديدة، حيث كان من أوائل العاملين مثلا على ملفات حقوق الإنسان، والثروات الطبيعية، والمعركة القانونية في المحاكم الأوروبية وغيرها. كان يدرس، ويناقش، ويبحث عن فهم كل فكرة جديدة، وعند الاقتناع بها، تجده في المقدمة معك في خندق الفعل، يكتب، ويترجم، ويحلل، ويجري الاتصالات بنفسه، ويقابل الشركاء والمهتمين الخ.
وقد عملت معه شخصيا عدة مرات في مناسبات خاصة أثناء تحملي مسؤولية اتحاد الصحفيين والكتاب الصحراويين في الفترة من 2005 وحتى 2013، حيث كلفني بمهام نضالية مرات عديدة. كان يضع المهمة على عاتقي، ويؤكد أنني المسؤول الأول والأخير عن نجاحها أو فشلها، وأن دوره سيكون دورا داعما فقط، يقدم أي مساعدة أطلبها وأراها ضرورية لإنجاح المهمة. وبالفعل، وجدت فيه إنسانا عميق التحليل، حكيما، مستمعا جيدا، ومحاورا فذا لا يشعرك بتاتا بأي نقص، ويسعد بأي إنجاز تقوم به. وشخصيا أعتبره صانعا للقيادات الشابة، وصانعا للوحدة وللسلام وللتناغم بين الرفاق.
أذكر كذلك، أنني لم أطلبه يوما لمقابلة صحفي أجنبي، أو باحث، أو حتى طالب أجنبي إلا ووافق على الفور على لقائه، وأعطاه من وقته لمناقشة ما يريده. علما أننا عملنا آنذاك في اتحاد الصحفيين مع المئات منهم، وفي جميع هذه المقابلات التي حضرتها، كانت انطباعات من يقابله هو الإنبهار بمستوى اللقاء، ومستوى الحوار والنقاش الصريح والشافي والوافي، رحمه الله. كان أيضا يتابع كل ما يكتب عن القضية الصحراوية خاصة في الإعلام الدولي، بل ونشر هو نفسه عددا كبيرا من المقالات في أكبر الجرائد الدولية. ومرات عديدة، خاصة بعد توفر وسائل التواصل الاجتماعي، كان يفاجئني بملفات صوتية من حين لآخر للتعبير عن رأيه في مقال كتبته مثلا، أو لمناقشة فكرة أو أفكار فيه، أو للتعليق على موضوع أو مقال توصل به.
إذن أعتقد أن علينا الآن أن نحاول العودة إلى الوراء كصحراويين لتقييم مساهمة هذا الرجل واستيعابها أولا قبل أن نتحدث عنها، لأن بها جوانب كثيرة تستحق التوقف طويلا.
البوليساريو فقدت بخاري ثم خداد، ألا ينبغي للمجموعة الدولية أن تنظر بعين التمعن لهذه النماذج الرائدة من الكفاح الدبلوماسي السلمي؟
هذا أمر مؤسف جدا بالفعل، وفقدنا أيضا قامات نضالية من أرفع المستويات دوليا، الشهيد محمد عبد العزيز المقاتل الذي امتلك الشجاعة لصناعة السلام. لكن للأسف، لم يجد بالمقابل قيادة مغربية تفهم الفرصة التاريخية التي منحها لها للخروج من فخ احتلالها اللاشرعي لأراضي الجمهورية الصحراوية. وقبله فقدنا أيضا الشهيد بإذن الله، المحفوظ اعلي بيبا، والخليل سيدي امحمد، والشهيد الولي، وأحمد بابا مسكة، وغيرهم كثير من قيادات الصف الأول للثورة الصحراوية الذين تركوا بصمات لا تنسى في مسار قضيتنا، ولن تكفينا مساحة هذا الحوار لجرد جميع أسماء شهدائنا الأفذاذ الذين يستحق كل واحد منهم حوارا قائما بذاته.
من المؤسف حقا ألا تغتنم الأمم المتحدة الفرصة الحالية لإنهاء هذا الوضع الشاذ في الصحراء الغربية، وإنهاء الاحتلال المغربي وفق القانون الدولي، في حياة الشخصيات التاريخية التي أنشأت جبهة البوليساريو وعايشت مختلف مراحل نضال هذا الشعب الأفريقي المسلم والمسالم، لأنهم أكثر الناس قدرة وشجاعة على صناعة السلام، فلقد عاشوا الحرب وخبروها ويعرفون جيدا ثمنها، كما أنهم مدوا أيديهم بشجاعة للسلام في وقت كانوا قادرين على مواصلة الحرب.
لكن، لابد أن نظل متمسكين بالأمل في أن يتغير الوضع في المستقبل القريب مع اقتراب تغير الكثير من الأشياء في النظام العالمي، ونرجو أن يكون نحو الأفضل رغم كثرة المؤشرات التي تؤكد أننا مقدمون كبشر على سنوات جد خطرة على جميع الجبهات.
المؤكد أن الكفاح سيستمر وسيتواصل على مستوى كافة المحافل الدولية وأن للدولة الصحراوية خزان لا ينضب من رجالات الكفاح والتحرر؟
هذا شيء طبيعي، فنضال الشعب الصحراوي أثبت أنه في الوقت نفسه نضال نساء ورجال أعطوا ولازالوا، لكنه أيضا نضال أجيال تتالت، ولاتزال تحمل المشعل، وأجيال قادمة مستعدة ومسلحة بإيمانها بقضية شعبها، ومسلحة أيضا بتجارب الأجيال التي سبقتها.
نضال الشعب الصحراوي لن يتوقف بزوال الرجال، فلقد فقدنا كشعب آلاف المناضلين الشجعان الذين حفروا أسماءهم في ذاكرة تاريخ شعبهم، ومنهم من فقدناه في أحلك الظروف، مثل الشهيد الولي مصطفى السيد، الذي سقط سنة 1976 وجبهة البوليساريو ماتزال في سنوات صباها الأولى، لكن ذلك المصاب الجلل لم يوقف مسيرة الشعب، لأن القضية لا تتعلق بهذا القائد أو ذاك، بل تتعلق وبعمق بحق الشعوب في الحرية والانعتاق، ولذلك لن تموت هذه القضية أو تتقادم بفقدان أي كان، وستستمر مادام هناك صحراوي واحد على قيد الحياة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024