قبل ستة وستون عاما فقدنا فلسطين، حقيقة مرعبة، تلقيناها منذ طفولتنها، فكبرنا وكبرت معنا أسئلتها؟ وكأنّنا لا نصدّق الذي جرى، فرحنا نستنطق التاريخ المكتوب، والتاريخ الذي ما زال في الصّدور، نغضب ونتفهّم ولكنّنا أبدا لا نستسلم.
ستة وستون عاما على تلك الأيام بما كان فيها من مآسي، عاينها الكبار وسمعها وقاسى من نتائجها الصغار، أحداث صبغت المعاصر لمنطقتنا بالدم في معركتنا المصيرية، الهروب منها يعني الإستسلام والإنخراط فيها يعني الفداء، وقبل كل شيء استعادة الكرامة المهدورة. كانت الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية شديدة القسوة والتعقيد على شعبنا الفلسطيني، فقد كان عليه أن يقترب في معركته الحامية بأقل التسليح الممكن، إذ كيف يمكن اقتناء السّلاح وعقوبة الإعدام، بل ولشعب بعض قياداته غارقة في الصراعات مشتتة للجهد المطلوب؟
في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧ صدر قرار التقسيم، ولكن الوجدان الوطني الفلسطيني رفضه رفضا حازما، في حين كانت فيه الهجرات الصهيونية تبعث على القلق وتقابل بالإستنكار، ولكن أحدا ما كان يتوقع أن يكون لتلك الهجرة دولة على أرض فلسطين، أو على بعض منها، وكذا ما إن جاءت الشهور الأولى من عام ١٩٤٨ حتى اتضح المخطط الجهنمي الذي كان الصهاينة يعدونه بمباركة بريطانيا التي كان بيدها زمام تسهيل الأمور أو تعقيدها. بدأ الصهاينة بالإنتشار التدريجي كالسرطان في المناطق التي يسيطرون عليها باتجاه المناطق المحيطة وصولا إلى التهام أوسع ما يمكن التهامه من أرض فلسطين.
وفي هذا السياق الوطني شكّلت معركة القسطل، وسيرة بطلها عبد القادر الحسيني، أهمية كبيرة لأن في سيرة أحداثها صورة مصغّرة لحقيقة ما جرى في ذلك العام من قتال اتسم بروح البذل، ولكن شروطا أكبر من طاقته جعلته يتوّج بالمأساة.
في الثالث من أفريل ١٩٤٨ تعرّضت القسطل لهجوم شنّته عليها قوة صهيونية كبيرة “البالماخ”، الأمر الذي أدى إلى سقوطها، وعلى الفور تشكّلت قوة فلسطينية تجمّعت من القرى والمدن المجاورة. وكان من قادة تلك القوة صبحي أبو جبارة، كامل عريقات وإبراهيم أبو دية وغيرهم، وخاضت في الرابع من أبريل معركة استرداد القسطل...
في تلك الأثناء، كان عبد القادر الحسني الذي اختير من قبل الهيئة العربية، وهو الإسم الذي كان يطلق آنذاك على القيادة الفلسطينية قائدا لقوات الجهاد المقدس الفلسطينية في دمشق للبحث مع قيادة اللجنة العسكرية المشكلة من الجامعة العربية، في امكانية الحصول على سلاح يقاتل به الفلسطينيون الأعداء الصهاينة دفاعا عن أنفسهم.
وعاد عبد القادر الحسيني إلى فلسطين خالي الوفاض، عاد لكي يسترد القسطل من الصهانية مهما كلف ذلك من ثمن..ولكنه قبل أن يعود أسمع القيادة العسكرية العربية ما لا يقال من الشتائم، هازئا تردّدهم وخوفهم من المجابهة. وكان قراره خوض المعركة، عازما الاستشهاد وكا ما توقع. وبعد وصوله إلى أرض المعركة الحاسمة مع عدد قليل من المناضلين، أعاد تنظيم الصفوف، وشنّ ليلة الثامن من أفريل هجوما استعاد بموجبه قرية القسطل، لكن الفرحة باستعادة القسطل لم تدم طويلا، ذلك أنّ القائدالفلسطيني الذي أبى إلا أن يكون على رأس القوات المهاجمة كان قد سقط شهيدا، والصهاينة قد عادوا بشنّ هجوم احتلوا فيه القسطل من جديد...
استشهد عبد القادر الحسيني في القسطل ليترك أمثولة للقادة الفلسطينيين من بعده، وليدخل في وجدان الأمة العربية والإسلامية كرمز للفداء والتضحية، وقد تجسّد في رجل وصل صدى معركة القسطل لكل الأقطار العربية. تكفينا في هذا الإشارة إلى تلقّي بعض الشعراء الجزائريين لها، رغم محنة بلادهم وآلامها كالشاعر الشهيد ربيع بوشامة، ابن شهيد معركة القسطل عبد القادر الحسيني، كهذه القصيدة:
حي ذاك الضريح
باسم الثغر هادئ الوجدان
يرفع الطرف للسماء شكورا
نعمة الموت عن حمى الأوطان
بطل “القسطل” الشهيد المفدى
فزت مجددا مخلدا في الزمان
روح الشهيد مقدس الروح شهما
مشرق الوجه عاطر الأكفان
أيها العرب أمة المجد والعلياء
ماذا ترجون غير التفاني
كيف ترضون عيش أمن وخير
وفلسطين في الجحيم تعاني *
في التاسع من أفريل وبينما كانت الجماهير تودّع قائدها، ارتكب الصهاينة واحدة من أبشع جرائمهم حينما هاجموا قرية دير ياسين وأبادوا سكانها. وبعدها صارت المجازر سياسة الصهانية للقضاء على الفلسطيني، فكانت مجزرة قبية وكفر قاسم وغيرها، وتدمير المخيمات الفلسطينية في لبنان ومذبحة صبرا وشتيلا بعد أربعة عقود...ولكن مع كل هذا ظل الفلسطين عصيا على التغييب فهو الحاضر أبدا....
ماجد مقبل
الملحق الإعلامي بسفارة فلسطين
الهامش
* أ - د / شريف مريبعي
الشاعر الشهيد الربيع بوشامة حياته وآثاره