٢٠ سنة مرّت والجرح لم يندمل

رواندا تتذكّر مجازر أودت بحياة ٨٠٠ ألف شخص

أمين بلعمري

قبل 20 سنة من اليوم وفي مثل هذا الشهر، استيقظ العالم على بداية أحد أبشع المجازر التي شهدها القرن العشرين: الحصيلة 800.000 قتيل،المكان: رواندا، الضحية: أقلية التوتسي، القاتل: حكومة الهوتو، الوقت الذي استغرقته الجريمة: 100 يوم.

هذه أهمّ حيثيات المجازر الرواندية ذات يوم من العام 1994، أين ارتكبت هذه الجريمة ضد الإنسانية من طرف حكومة الهوتو آنذاك أمام سكوت غير مفهوم للمجتمع الدولي، الذي سمع ورأى الممارسات البشعة والممنهجة،قتل بما أتيح من وسائل، سواطير، سكاكين، أسلحة نارية، تنكيل واعتداءات جنسية...إلخ، المشهد مرعب، مأساوي، الجثث وبرك من الدم  في كل مكان، حملة إبادة حقيقية، الحصيلة ثقيلة 8000 شخص يوميا وحوالي ٤٠٠ شخص كل ساعة وخمسة أشخاص كل دقيقة، تمّ تحطيم الرقم القياسي الزمني في التقتيل الجماعي والمجموع خلال مائة يوم 800.000 قتيل.
العالم تحت هول الصّدمة! اليوم وحتى بعد مرور عشرين عاما على هذه الذكرى المشؤومة لا تزال هذه الأرقام تثير فينا الشّعور بالرّعب والهلع.
من المفيد التطرق في هذه الذكرى العشرين من المجازر إلى دور الاستعمار بشكل عام والبلجيكي في الحالة الرواندية، في تنمية الأحقاد ورفض الآخر وسط شعوب القارة الافريقية، وكيف خلّف وراءه قنابل موقوتة رهنت الاستقرار السياسي والاجتماعي في دول القارة، والعيش المشترك بين شعوبها.

الاستعمار البلجيكي وزرع بذور الفتنة
تاريخيا كان هناك اختلاف في التصنيف الأنثروبولوجي للهوتو والتوتسي في رواندا، فالهوتو التي تشكّل الأغلبية في هذا البلد لديها تقاليد زراعية أي تعيش على الزراعة، في حين تعرف أقلية التوتسي بتقاليدها الرعوية. واستمرّ هذا الاختلاف لعقود كسمة للمجتمع الرواندي، إلاّ أنّ الاستعمار البلجيكي سنوات قبل استقلال رواندا أخذ يغذّي هذه الفروقات من خلال وضع قوانين ونصوص تبرزه.
وبهذا ازدادت التوترات بين مجموعة الهوتو التي تشكّل الأغلبية العددية وبين مجموعة التوتسي التي تشكّل 10 بالمائة فقط ولكن لديها تفوق نوعي، حيث تحتل رتب أعلى في التصنيف الاجتماعي. وقد اضطرّت هذه التوترات عشية الاستقلال عام 1962 الكثير من أفراد أقلية التوتسي الفرار إلى البلدان المجاورة بعد أن استولت الأغلبية (الهوتو) على الحكم إثر انسحاب الاستعمار البلجيكي.
وبعد سنوات من المعارضة التوتسية السلمية في الخارج، أسّست جناحها العسكري المسمى الجبهة الوطنية الرواندية عام 1988 في أوغندا، والتي نفّذت عدة هجمات ضد الحكومة الرواندية أسفرت عن سقوط العديد من الضحايا، وبعد خمس سنوات من المواجهة توصّل الطّرفان إلى اتّفاق تمّ التّوقيع عليه شهر أوت 1993 في مدينة اروشا التنزانية، وكان من المفروض أن يضع هذا الأخير حدّا للنّزاع من خلال اقتسام السّلطة بين الطغمة العسكرية الحاكمة في كيغالي والجبهة الوطنية الرواندية. وبدأت بوادر إيجابية لمستقبل يوحي بتعايش بين الطائفتين رغم أنّ ذلك لم يكن سهلا وكان مشوبا بالحذر
والتوجس من الآخر، وأخذت أصوات العقل والحكمة تتغلّب شيئا فشيئا على لغة المواجهة والرصاص، إلاّ أنّ عرابي السّلطة وصنّاع الموت والمصالح المتضاربة للقوى الاستعمار السابقة، سرعان ما أجهضت مساعي المصالحة والحوار.

حادثة الطائرة و بداية المجازر
مساء السادس أفريل 1994، وقع ما لم يكن في الحسبان حيث أصابت قذيفة الطّائرة التي كانت تقل الرئيس الرواندي جيوفينال هبياريامانا ونظيره البوراندي كيبريان نتارياميرا، أضفت إلى مقتل الرئيسين
والطاقم الفرنسي للطائرة. وقد أدّى هذا الاعتداء الاجرامي الذي لم يعرف بعد الطرف المسؤول عنه حتى اليوم، إلى اشتعال وتيرة العنف والاقتتال خلال الأشهر الثلاث التالية،
وبدأت عملية تصفية ممنهجة للعناصر المعتدلة في الحكومة الرواندية لإجهاض كل محاولات وقف العنف. ومن أهم الشخصيات التي تمّت تصفيتها أغاثا ويلين إيمانا، رئيسة وزراء رواندا إثر اعتداء أدى إلى مقتلها وعشرة من القبعات الزرق المكلّفين بحمايتها.
وبالتوازي مع ذلك، بدأت حملة إبادة حقيقية ضد أقلية التوتسي على الأرض عقب انفجار أعمال العنف، ووجدت البعثة الأممية نفسها عاجزة على فعل شيء إلا طلب النجدة من خلال نداءات قائد قوات القبعات الزرق المطالبة بإرسال تعزيزات وتمديد المهمة الأممية في رواندا، إلاّ أنّ هذه النّداءات جاءت متأخّرة لأنّ الأسوأ قد حصل. بل أكثر من ذلك لم يوافق مجلس الأمن على اتخاذ أي إجراء إلا بعد شهرين، حيث صادق أعضاؤه على العملية “الإنسانية” الفرنسية (تركواز) يوم 22 جوان 1994 من أجل حماية المدنيين، إلاّ أنّ هذه العملية الفرنسية وبالتوازي مع حماية المدنيين سمحت للمجرمين الإفلات من العقاب، حيث غضّت الطرف عن فرار أفراد من الجيش الرواندي ومن الميليشيات المسلّحة المتورّطة في هذه المجازر إلى خارج البلاد بعد اقتراف هذه الإبادة الوحشية التي استمرت 100 يوم، أي من السابع أفريل إلى 22 جويلية 1994، والتي لم تتوقّف إلاّ بعد سيطرة الجبهة الوطنية الرواندية على كامل البلاد بقيادة بول كاغامي الرئيس الحالي لرواندا، الذي رفع من حينها شعار “لا للأثنية في رواندا” منذ تولّيه مقاليد الحكم في البلاد.  
إنّ المصالحة وإن كانت هشّة في هذا البلد بالنظر إلى مخلّفات المجازر ونتائجها، فإنّ الروانديين استطاعوا وقف الاقتتال والمواجهات بينهم، وإن كان من الخطأ القول إنّ الأحقاد قد زالت تماما فإنّ الأكيد أنه لا أحد من الروانديين سواء كان من التوتسي أو الهوتو يريد عيش هذا الكابوس المرعب من جديد. والأكيد أنّ المجتمع الدولي عليه أخذ العبرة من هذه المأساة، ومنع وقوع مجازر أخرى واتخاذ إجراءات استباقية تجنّب الانسانية وقوعها من جديد، ولكن وبالنظر إلـى الوضع في جمهورية إفريقيا الوسطى والتي تشهد تصفية عرقية ضد المسلمين ـ تنذر بأن تتحوّل إلى إبادة شاملة ـ إن ظلّ المجتمع الدولي على تسويفه ومماطلته كما حصل في رواندا، وإن لم تكف بعض القوى ـ التي كان من المفروض أن تقوم بإعادة السلام ونزع السلاح دون تمييز ـ في هذا البلد عن تقوية طرف على حساب آخر، فإنّ المجزرة الرواندية سيعاد إنتاجها من جديد في جمهورية إفريقيا الوسطى.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024