الصين تتقدم كبديل مستحَق لريادة العالم
يعتقد السيد محمد عمرون أستاذ العلاقات الدولية بجامعة مولود معمري بتيزي وزو في حواره مع « الشعب» ، أن «جائحة كورونا» ستكون لها آثار عميقة على كل المستويات، بداية بالفرد مرورا بالمجتمع والدولة فالمنتظم الدولي وطبيعة النظام العالمي القائم، وسيكون من الطبيعي إعادة النظر في كثير مما كنا نعتقده كمسلمات، فسيتشكل سلم جديد لأولويات المواطن «الإنسان»، ويعاد التفكير في السياسات العامة للدول وستتغير مفاهيم «الأمن القومي» و»التعاون الدولي»، و»السيادة» والتكامل الإقليمي»، وتعود أسئلة جوهرية لتطفو على السطح مجددا، حول مدى قدرة النظام العالمي القائم على الوصول بالبشرية إلى الأمن والسلام، ومن ثم يبدأ التفكير حقيقة في ضرورة التغيير، وجائحة كورونا قد تكون الانطلاقة.
الشعب: كما أن لكورونا تأثير كارثي على الصحة والسلامة في جميع ربوع العالم فلا شك أن له نتائج جيواستراتيجية على المدى الطويل ستحدث تغيرات على النظام العالمي القائم، ما تعليقكم وهل العالم ما بعد كورونا سيكون غيره قبل هذا الوباء القاتل؟
الأستاذ محمد عمرون: في الحقيقة، يعيش العالم اليوم صدمتان، الصدمة الأولى مرتبطة بحجم الخسائر البشرية الفادحة، والاقتصادية الثقيلة التي خلفتها «جائحة كورونا»، أمام عجز شبه تام للدول وأنظمتها الصحية في مواجهة الفيروس، فأشد المتشائمين لم يكن ليعتقد أن عالم القرن الواحد والعشرين بالطفرة التكنولوجية والعلمية المحققة، سيسَجّل في تاريخه وباءا مثلما سُجّل في القرون السابقة من أوبئة «الطاعون» و»الجدري» و»الكوليرا» و»الأنفلونزا الاسبانية» وغيرها، وأن العالم الذي أصبح لا يهدأ ولا ينام، يصاب بالشلل شبه التام.
أما الصدمة الثانية فمرتبطة بـ»الأنانية» المفرطة التي اتسمت بها الدول في مواجهتها لهذا الفيروس، فغابت مفاهيم مهمة كالتضامن والتعاون الدوليين، الامن الجماعي، دور التكتلات الإقليمية وغيرها، وانكفأت الدول على نفسها، وبعدما كانت العولمة تشيد بأكبر إنجازاتها بأن حوّلت العالم إلى قرية وحطمت الحدود، جاء «الفيروس المجهري» ليحوّل ذات العالم وفي أسابيع معدودة،إلى كنتونات معزولة، فأغلق البر والبحر والجو، وتُركت الدول الموبوءة لمصيرها، فإيطاليا العضو الفاعل في الاتحاد الأوروبي غابت عنها مؤسسات الاتحاد القاري التي استثمرت فيها روما كثيرا كنموذج للتعاون الإقليمي، وافتقرت منظمة الصحة العالمية للأدوات الكفيلة بمساعدة الدول والتنسيق بينها، ما جعل النظام الدولي بكل فواعله وألياته عاجزا عن فعل أي شيء.
من هذا المنطلق، اعتقد بأن «جائحة كورونا» ستكون لها اثار عميقة على كل المستويات، وتعود أسئلة جوهرية لتطفو على السطح مجددا، حول مدى قدرة النظام العالمي القائم على الوصول بالبشرية إلى الامن والسلام، ومن ثم يبدأ التفكير حقيقة في ضرورة التغيير، وجائحة كورونا قد تكون الانطلاقة.
من «الدولة الموبوءة» إلى «الدولة النموذج»
- يعتقد البعض أن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترتقي إلى مستوى التحدي الراهن خاصة إذا ما قورنت بالصين ، وهذا يطرح علامة استفهام كبرى عن القدرة الحقيقية لواشنطن على قيادة العالم وعلى بقائها في الريادة، فهل سيزيح كورنا أمريكا من ريادة العالم؟
أثناء الأزمات، أخطر ما قد يقع فيه صانع القرار هو «سوء التقدير»، كونه سيؤدي إلى رسم استراتيجيات خاطئة وبالتالي نتائج مضرة، والإدارة الامريكية أساءت التقدير في «ازمة كورونا» من وجهين اثنين، الاول أنها ولغاية الأسبوع الماضي لم تتعامل مع موضوع «الفيروس» بالجدية اللازمة، بل كان الاستخفاف باديا على خطابات الرئيس الامريكي، وهذا رغم تحذيرات منظمة الصحة العالمية واعتبار الفيروس «جائحة» ، هذا الاستخفاف أوصل «كورونا» للبيت الأبيض وللجيش الأمريكي، أكثر من هذا، فقد أعطى هذا التعامل المتراخي مع «كورونا» انطباعا سيئا لدى الرأي العالمي بدرجة الاستهتار التي تبديه دولة بحجم الولايات المتحدة لمسألة تهم البشرية جمعاء، وان الولايات المتحدة الأمريكية لم ترق بمسؤوليتها إلى مستوى الحكامة العالمية، ما جعل الصين تستغل الفرصة وتتهمها بعدم الكفاءة وعدم المسؤولية.
اما الوجه الثاني من «سوء التقدير الأمريكي»، فهو محاولة الولايات المتحدة الامريكية معاكسة تجربة الصين في خيار «التباعد الاجتماعي» كاستراتيجية لتطويق الداء، وهذه المعاكسة ليست ناتجة عن وجود بدائل أخرى للإدارة الامريكية بقدر ما هي ناتجة عن رفض هذه الاخيرة أن تتحول الاستراتيجية الصينية إلى نموذج عالمي، ومن تم ظهور الولايات المتحدة الامريكية بمظهر التابع للصين، وهو أمر مسيء لقوة عظمى بحجم امريكا، ويشكك حقيقة في أهليتها لقيادة العالم.
لذلك، فإن الإدارة الامريكية اليوم، تسابق الزمن من اجل استدراك ما فاتها من خلال تركيز جهدها على اكتشاف اللقاح او الدواء لهذا الفيروس، كونه الطريق الوحيد للتغطية على فشل إدارة ترامب، وجعل أمريكا عظيمة مجددا في نظر حلفائها والعالم. ينضاف إلى ذلك فإن إطلاق ترامب تسمية «الفيروس الصيني» على «فيروس كورونا» وربط اسم الصين بالجائحة العالمية هو محاولة لخدش صورة الصين التي اكتسبتها في مواجهتها للفيروس، فالولايات المتحدة الامريكية تدرك ان فيروس كورونا أفقدها نقاطا مهمة في سلم القيادة العالمية لصالح الصين.
- أداء الصين اتجاه الوباء اللعين أبهر العالم الذي يتسابق للاستفادة من تجربتها ومساعداتها، فما تقييمكم لتجربة الصين مع هذه الكارثة، كيف استطاعت أن تواجه الوباء وتحصره وما الدرس الذي نستخلصه من العملاق الأصفر الذي نراه يصعد السلم ليتوج كقوة أولى في العالم؟
الصين كقوة كبرى، عملت لسنوات على تسويق نموذجها الخاص للعالم، وقدمت مساعدات كثيرة واستثمارات هائلة للدول الأخرى، واستطاعت ان تتجاوز قوى كبرى كبريطانيا وفرنسا وروسيا من سباق الريادة العالمية، وجاء «فيروس كورونا المستجد « ليؤكد حقيقة الطموح الصيني، فبالرغم من الأخطاء الأولى التي ارتكبتها بكين في التعامل مع الفيروس، منذ ظهوره لأول مرة في نوفمبر 2019، وتأخرها في اتخاذ الإجراءات اللازمة، إلا انها استطاعت التدارك بسرعة من خلال استراتيجية الإغلاق الكامل للحياة اليومية، وبدأت تسترجع زمام المبادرة شيئا فشيئا، وتنجح في تطويق الوباء بحسب الإحصائيات المقدمة، وهنا يجب الإشارة إلى ثلاث نقاط ساعدت الصين في تجاوز أحد اكبر الازمات الصحية التي تجتاح العالم، وهي الصرامة في تنفيذ الإجراءات المتخذة من قبل السلطات والمختصين، العمل كجماعة من اعلى مستوى إلى ابسط فرد في المجتمع، ثالثا وأخيرا الانضباط المجتمعي، وهي النقاط التي سوّقت لها الصين ونالت الإشادة والتقدير، والأكثر من ذلك وضعت الصين تجربتها وخبرتها وإمكانياتها في خدمة الدول الأكثر تضررا، ففي الوقت التي عجزت فيه الولايات المتحدة الامريكية في توفير المعدات الطبية، كانت الصين ترسل المساعدات لإيطاليا حليف أمريكا، وهي رسالة وإن كانت ببعد إنساني إلا انها تحمل دلالات استراتيجية مهمة.
إن قدرة الصين على قلب المعادلة من دولة «موبوءة ومُلامة» إلى دولة «النموذج»، تؤكد
نجاحها في تحويل التهديد إلى فرصة، وهذه قمة نجاح إدارة الازمات، وهي اليوم تقدم نفسها كبديل جاهز ومستحَق _وبكل هدوء_ للريادة العالمية، وكأن الصين تخاطب العالم فتقول له: مادام القائد الحالي «الولايات المتحدة الامريكية» أبدى فشلا في إدارة ازمة عالمية، سواء اكان ذلك نتيجة عدم قدرة أو عدم رغبة، فإنه في كلتا الحالتين لا يستحق المكانة التي هو عليها الآن».
- منذ مجيئه إلى السلطة، تبني ترامب العزلة والانعزالية كاستراتيجية لتنفيذ مبدأ «أمريكا أولا» الذي راهن عليه منذ انتخابه رئيسا ،و ها قد جاء كورونا ليعزز عزلة أمريكا التي غلقت أبوابها وأدارت ظهرها حتى لحلفائها، ما قراءتكم لهذا الموقف الأمريكي الذي يلقى الكثير من الانتقاد والاستهجان وما تأثيره على المكانة الأمريكية دوليا؟
إن صفة «القائد العالمي» التي تمتعت بها الولايات الامريكية مطولا، كانت ناتجة بالدرجة الأولى عن قدرتها على إدارة الازمات الدولية، وتفوقها الاقتصادي والتكنولوجي الكبير، وهذه الصفة بقدر ما قدمت للولايات المتحدة الامريكية الكثير من المزايا وتحقيق الكثير من المصالح الحيوية، بقدر ما حمّلتها الكثير من الأعباء، وجعلها تغرق داخليا في مشاكل البطالة والرعاية الصحية و قدم البنى التحتية وغيرها، وأعطى صورة للمواطن الأمريكي بأن الإدارات الامريكية تهتم بالخارج اكثر من الداخل ومن هذا المنطلق نفهم شعار ترامب الانتخابي السابق «أمريكا اولا»، وحتى وإن نجح «ترامب» في استعادة الاقتصاد الأمريكي لعافيته وقلص معدلات البطالة لمستويات قياسية، إلا أنه بالمقابل زعزع الثقة بين أمريكا وحلفائها، حيث أن فرض ترامب لمنطقه في كثير من القضايا الدولية بدءا باتفاقية باريس للمناخ مرورا بتشجيع بريطانيا المبالغ فيه للخروج سريعا من الاتحاد الأوروبي، وصولا إلى تغيير العديد من الاتفاقيات الثنائية و تنصله من التزامات دولية اخرى، وانتهاء بصفقة القرن الأحادية الجانب، كل هذا، جعل أمريكا تظهر بمظهر الديكتاتوري الذي يسوق غنمه من الحلفاء بدون مشاورة ولا شراكة، وهو ما ادخل أمريكا في الكثير من الخلافات مع حلفاء تقليديين كفرنسا وألمانيا وتركيا
إن منطق «أمريكا أولا « تحوّل مع مرور الوقت إلى «أمريكا ثم لا أحد»، وهو ما جعل من حلفاء «العم سام» في شك دائم وعدم رضا معلن وخفي، وهي أولى بوادر انهيار أي تحالف كان.
عهدة ثانية متوقفة على تطويق الوباء
- في اعتقادكم هل ستسمر سياسة العزلة بعد كورونا، أم سترحل معه؟
«ترامب» يمثل توجها لإدارة شعبوية، شخصيته وطاقمه المحيط به يؤكد استمراره في نفس النهج، وشعاره الإنتخابي الحالي «وعود قطعت، أفعال تحققت»، تؤكد افتخاره بما قام به، وسيعمل أكثر من اجل تحقيق أهدافه، بالمقابل مسألة تجديد عهدته من عدمها، مرتبطة بإدارته لازمة كورونا، فقبل ظهور الفيروس، كل المؤشرات كانت توحي بفوز قوي للرئيس الأمريكي، نتيجة أداء الاقتصاد والارتباك الحاصل في الحزب الديمقراطي لتقديم مرشحه، لكن، بعد «جائحة كورونا» والفشل الأمريكي إلى حد الآن في التعامل معها، يجعل من الحديث عن عهدة ثانية مرتبط ارتباطا وثيقا في مدى نجاح الإدارة الامريكية او فشلها في تطويق الفيروس والسيطرة عليه، خصوصا ونحن على بعد اشهر قليلة من الانتخابات، فأي إخفاق للتعامل معه، تكون نتيجته واضحة، وهو خسارة الانتخابات الرئاسية لصالح المرشح الديمقراطي، الذي من دون شك سيجعل من موضوع كورونا محور حملته الانتخابية، ليكون الفيروس الذي استهزأ به ترامب هو السبب في تنحيته من البيت الأبيض.
الاهتمام بالصحة بدل السلاح النووي
- نشهد حاليا كيف أن كورونا عزل الدول بعضها بعض وكل دولة تحاول النجاة بنفسها دون الالتفات إلى الأخرى، فكيف ستكون العلاقات بين الدول بعد تجاوز هذه المحنة الرهيبة؟
بالفعل، كنت قد اشرت سابقا إلى الانانية المفرطة التي اتسمت بها الدول في التعامل مع الازمة، حيث أبانت عن قصور كبير في آليات التعاون والتضامن الدوليين، وهنا العالم سيكون بين خيارين، إما مزيدا من العزلة والانغلاق، أو تعزيز أكبر للتضامن الدولي أثناء الازمات، واعتقد ان الخيار الثاني هو الخيار العقلاني والذي يتماشى مع طبيعة العالم اليوم.
لذا فإن درس «كورونا المؤلم» سيجعل الدول تهتم بالصحة العمومية بقدر اهتمامها بالسلاح النووي، وتعمل على ان تتحول المؤسسات الإقليمية والدولية التي تنتمي إليها إلى مؤسسات فاعلة تتحرك بسرعة وبفعالية أكثر لصالح الدول عند الحاجة، أين يلتزم فيها الجميع بتقاسم التكاليف والأعباء والإمكانيات المتاحة، ما يعطي معنى حقيقيا لمفهوم التضامن والتعاون الدوليين.
الأحزاب القومية و الشعبوية ستتراجع
- ألا نرى مستقبلا مزيدا من الانجذاب نحو القومية والشعبوية؟
بالعكس، قد تتجه البوصلة نحو الأحزاب اليسارية، و حتى أحزاب الوسط، مدعومة بالإعجاب العالمي بالتجربة الصينية، خصوصا وان الأحزاب القومية والشعبوية غالبا ما يكون تركيزها على قضايا الهجرة والتطرف والإرهاب، والتي يبدو انها ستتراجع في اهتمامات الناخبين بفعل جائحة كورونا، مقابل تصاعد الاهتمام بالرعاية الصحية والتعليم والخدمات الاجتماعية، وهي مواضيع تشكل صلب اهتمام أحزاب اليسار، كما أن الإخفاق الأمريكي _إن تواصل_ في تعامله مع «كورونا» سيضرب في الصميم القيادات الشعبوية في الغرب، على اعتبار أن «دونالد ترامب» زعيم الشعبويين بدون منازع.
- في كلمة أخيرة ما مستقبل العالم والعلاقات الدولية بعد هذا الامتحان العسير؟
أولا، يجب أن نتعلم وبسرعة من هذه المحنة البشرية، وبأن على الدول ان تتعامل مستقبلا مع كل خطر مهما كان صغيرا باعتباره تهديدا عظيما، ويجب ان تشحذ له كل الإمكانيات والوسائل لتطويقه والقضاء عليه، فإن كان هذا الخطر يمثل بحق ذلك التهديد الكبير، تكون الدول قد قضت عليه في بدايته، وإن كان عكس ذلك، فتكون الخسارة بأقل التكاليف. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن «جائحة كورونا « صفعة قوية للعالم وللإنسانية، وأبانت عن قصور إنساني رهيب، وأن البقاء بنفس الاستراتيجيات والمفاهيم والنظم التي تحكم العالم اليوم، سيجعل من هذا العالم أقل أمنا، وأنه كل ما قيل عن «نهاية التاريخ» بتربع النظام الرأسمالي على العالم هو محاولة لوقف تطور الإنسانية، بل بالعكس، «فيروس كوفيد 19 « سطّر لـ «بداية التاريخ» لا نهايته، والأمم الذكية هي التي تبدأ من الآن الاستعداد للمناخ العالمي الجديد القادم لا محالة.