قدم مؤتمر ميونيخ للأمن، المنعقد جنوب ألمانيا، بين الجمعة والاثنين الماضيين، صورة محبطة عن واقع السلم والأمن الدوليين، وأماط اللثام عن ذروة التنافس بين الشرق والغرب، وعن تضاؤل الثقة والتعاون بين القوى الغربية ذاتها، مما يعني استمرار الأزمات لسنوات أخرى.
تميزت الطبعة 56 لأشهر مؤتمر للأمن على الصعيد العالمي، عن الطبعات السابقة، بتشخيص دقيق لواقع العلاقات الدولية، وتقديم نظرة استشرافية مفادها أن «العالم مقبل على سنوات أخرى من التوتر والنزاعات».
وكشفت النسخة التي شارك فيها رؤساء 35 دولة وحكومة، وأكثر من 50 وزير خارجية، و30 وزير دفاع، حجم الخلافات داخل الدول الغربية أو ما يسمى بضفتي الأطلسي، ومدى التنافس بين الغرب والشرق ممثلا في روسيا والصين، وبدرجة أقل إيران التي حملت وزر كافة الأزمات التي يعرفها الشرق الأوسط.
المداخلات المكثفة لرؤساء الدول والحكومات وخبراء هندسة الأمن في العالم، حملت بشكل لافت هذه المرة عودة الحديث عن صراع القيم الغربية (الليبرالية)، وقيم باقي مناطق العالم، وتجلى ذلك بشكل واضح في كلمة وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو الذي قال إن «القيم الامريكية ستسود وتنتصر»، وذلك في رده على تصريحات قادة أوروبيين بتراجع الغرب على الساحة الدولية وانحسار التعاون بين دول الحلف الأطلسي.
انكسار الغرب..
الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، كان صريحا للغاية عند افتتاح الأشغال، وهاجم السياسية الأمريكية بقيادة الرئيس دونالد ترامب وإدارته، واعتبر أنها تقود العالم إلى «الأوقات الأكثر سوادا».
وقال شتاينماير: «أقرب حلفائنا - الولايات المتحدة الأميركية - في ظل الإدارة الحالية - ترفض فكرة المجتمع الدولي، وكأن الجميع ستكون أمورهم بخير إذا فكّر كل شخص في نفسه فقط، يرددون شعار «عظيمة من جديد» حتى لو على حساب جيرانها وشركائها».
وتابع الرئيس الألماني: «بأسف سنة بعد سنة نبتعد من هدف التعاون الدولي الساعي لإقامة عالم سلمي»، ليضيف إن «فكرة التنافس بين القوى الكبرى تطبع واقع الكرة الأرضية كلها».
وتنسجم تصريحات الرئيس الألماني، مع تحذيرات، سبق وأطلقها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس، قبل سنتين، بشأن «هيمنة الأحادية»، على العلاقات الدولية، مشيرا بالإصبع إلى الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب، الذي يرفع شعار «أمريكا أولا».
واتضح من هذا الشعار، أن الإدارة الأمريكية تضع مصالحها، فوق كل الاعتبارات، حتى على حساب أقوى خلفائها التاريخيين، وبالأخص الاتحاد الأوروبي، إذ لم يتوان ترامب في فرض عقوبات اقتصادية صارمة على بروكسل، تكاد تكون مشابهة لما فعله في حربه التجارية مع الصين التي تعتبر الغريم التقليدي والاستراتيجي لأمريكا رفقة روسيا.
القلق الألماني، من تدهور العلاقات داخل «الغرب»، بسبب السياسات الأمريكية، قاسمه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقال أن واشنطن «تراجع علاقتها مع أوروبا»، مشدّدا أنه على «القارّة الأوروبية أن تتولّى تقرير مصيرها».
وأضاف ماكرون، بأن المجموعة الأوروبية تحتاج «إلى إستراتيجية أوروبية تعيد إحياءنا وتحوّلنا إلى قوة سياسية استراتيجية».
ومنذ توليه رئاسة فرنسا، بادر الرئيس الفرنسي بمشاريع مختلفة، لتعزيز الاتحاد الأوروبي، لصد الهيمنة الأمريكية، خاصة ما تعلّق بمسألة «الحماية»، تحت راية الحلف الأطلسي، واقترح تشكيل قوة عسكرية أوروبية موحّدة.
وسبب الرئيس الأمريكي متاعب كبيرة للاتحاد الأوروبي، إذ تعامل مع معظم الدول بازدراء كبير، خاصة ما تعلق بأتعاب الحلف الأطلسي، وواجهها بفواتير باهظة ألزمها بتسديدها للحلف الذي تقوده بلاده.
أمريكا ترد
في مداخلة استغرقت أزيد من نصف ساعة، رد وزير الخارجية الامريكي مايك بومبيو على «تقديرات»، أوروبا، لمستقبل الغرب في ظل تباعد الهوة في الأهداف والمصالح بينها وبين الإدارة الأمريكية الحالية.
وقال بومبيو: «هذه التصريحات لا تعكس الواقع»، في إشارة إلى خطاب الرئيس الألماني والرئيس الفرنسي، وأضاف: «يسرني أن أبلغكم بأن فكرة التحالف بين ضفتي الأطلسي قد مات مبالغ فيها إلى حدّ كبير».
وبعد ما كال العديد من التهم لروسيا والصين وإيران، قال رئيس الدبلوماسية الأمريكية: «قيمنا هي التي ستسود العالم (القيم الليبرالية)»، وتابع: «نحن من سينتصر وسنفعل ذلك معا».
مداخلة الوزير الأمريكي، أبانت بشكل جلي عن التنافس المحموم، بين بلاده وبين روسيا والصين، وأنه لا مجال للتراجع عن السعي للتفوق، كما كشفت مدى الرغبة في الخلاص من التزامات توازن الردع.
وأعلن بومبيو خلال مؤتمر ميونيخ «بأن الولايات المتحدة ستموّل مشاريع الطاقة في دول شرق الاتحاد الأوروبي، كجزء من الجهود الرامية لخفض الاعتماد على الغاز الروسي». بمعنى أن التنافس لا يقتصر على سباق التسلح، وإنما النفوذ وإعادة الهيمنة عبر استغلال الطاقة والاقتصاد.
وقال بومبيو: «إن الولايات المتحدة تنوي عبر وكالة تمويل التنمية الدولية وبدعم من الكونغرس الأميركي تقديم ما يصل إلى مليار دولار من التمويل لدول وسط وشرق أوروبا الأعضاء في مبادرة البحار الثلاثة».
ارتفاع النفقات العسكرية
الصراع الدولي حول القيم التي تحكم العالم، يترجم على الأرض الواقع بضخ الأموال في استثمارات الهيمنة وسباقات التسلح، الذي ارتفع بنسبة 4 بالمائة، السنة الماضية، وفق لإحصائيات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية.
وفي السياق، أوضح جون شيبمان مدير المعهد الذي مقره لندن، إن النفقات العسكرية «ازدادت مع خروج الاقتصادات من الأزمة المالية لسنة 2008، وتحت تأثير أفق تصاعد التهديدات».
وتابع قائلا: «في هذا الظرف يتنامى حجم الميزانيتين العسكريتين الأكبر في العالم لتبلغ ميزانية واشنطن 685 مليار دولار والصين 181 مليار دولار، وارتفعت الميزانيتان بنسبة 6,6 بالمائة في 2019 مقارنة بسنة 2018»، وارتفعت ميزانية الولايات المتحدة الأمريكية، بـ 53,4 مليار دولار في 2019.
وتحتل المملكة العربية السعودية المرتبة الثالثة عالميا من حيث ميزانية التسليح، تليها روسيا والهند وبريطانيا، ثم فرنسا، اليابان، وألمانيا، وفق لذات المعهد.
وأفاد جون شيبمان، أن قلق غرب وأمريكا تحديدا حيال بروسيا، «يغذي النفقات العسكرية مع زيادة بنسبة 4,2 بالمائة مقارنة بـ 2018».
وكشف في الوقت ذاته، أن «التنامي الكبير للقدرات العسكرية الصينية صواريخ بالستية عابرة للقارات يمكنها ضرب أي هدف في الولايات المتحدة وطائرة مقاتلة متطورة «جي - 20 أي» وصواريخ وطائرات مسيرة، مصدرا مهما لقلق واشنطن وشركائها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ».
واستعاد العالم العام الماضي أجواء الحرب الباردة، بعد انسحاب واشنطن من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى من 500 إلى 5500 كم في 2019، وردت موسكو بالمثل، وتثار المخاوف «بشأن احتمال زوال معاهدة نيو ستارت حول الأسلحة النووية العابرة للقارات في 2021»، وفق ما نقلته وكالات عالمية للأنباء.
وأوضح المعهد في مداخلة مديره أمام ضيوف مؤتمر ميونيخ «إن الصين بدأت على غرار روسيا، تطوير أسلحة تفوق سرعة الصوت يمكنها تخطي الدفاعات الصاروخية المضادة».
وكان الجيش الروسي قد أعلن في ديسمبر الماضي بداية تشغيل أولى الصواريخ الأسرع من الصوت (افنغارد) التي أشاد بها الرئيس فلاديمير بوتين باعتبارها «لا تهزم ولا ترصد».
عجز لا يغتفر؟
وإلى جانب تنافس القوى الكبرى، ومشاكل الغرب، تراجع واشنطن عن دورها التقليدي كحارس للنظام الدولي، والتخوّف من تنامي قوة روسيا والصين ودول أخرى، ناقش مؤتمر ميونيخ للأمن عديد الأزمات الإقليمية الراهنة، على غرار الحرب في اليمين، وسوريا وليبيا، والأزمة الخليجية.
وبالنظر لأهمية القضايا المطروحة، وصف رئيس المؤتمر فولفغانغ إيشينغر، النسخة 56 لمؤتمر ميونيخ لهذه السنة، «بأنها الأهم خلال العشرين سنة الماضية».
وأعرب إيشينغر عن شعوره «بالإحباط نتيجة عجز المجموعة الدولية عن حل أزمات عالقة أبرزها الوضع في سوريا وليبيا». وانتقد للاتحاد الأوروبي قائلا إن «أعضاءه عجزوا عن تحمّل مسؤولياتهم تجاه أزمات تشتعل بجوارهم وهو أمر غير مقبول ويدعو للقلق».
وقال المتحدث إن «عجز المجتمع الدولي عن وقف الحرب في سوريا بأنه فشل لا يغتفر». وتخوف ممثلو عديد الدول الأوروبية من «تحوّل ليبيا إلى سوريا»، إذ لم يتم التحرك سريعا لوقف الاقتتال الدائر هناك، ووضع حدّ لتغذية النزاع من خلال توريد الأسلحة للأطراف المتناحرة.
وفي اليوم الأخير، لمؤتمر ميونيخ، عقدت اللجنة الدولية لمتابعة مخرجات إجتماع برلين حول ليبيا، أول اجتماع لها، أين شارك رئيس الدبلوماسية الجزائرية، صابري بوقدوم، في الاجتماع باعتبار الجزائر عضوا فاعلا في اجتماع القوى الدولية الكبرى التي نشطت لقاء برلين في 19 جانفي الماضي.
وجرى خلال الاجتماع التذكير، بضرورة وقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، مع إيصال رسالة صارمة، على الدول أو الجهات الأجنبية التي تواصل خرق حظر توريد الأسلحة إلى ليبيان من «فرض عقوبات اقتصادية عليها».
لا لصفقة القرن
المداخلات التي لفتت إلى انهيار «توازن الردع»، وعودة التنافس حول السيطرة الأحادية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، بصمت في حقيقتها على انهيار النظام العالمي التي تأسس عقب الحرب العالمية الثانية.
ويتجلى هذا الانهيار، من خلال التمرد الداخلي الذي يقوده أبرز صناعه وقادته، وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية، والاحتلال الإسرائيلي، هذا الأخير، لم يتوان منذ عقود في الدوس على كل البنود والمبادئ والقوانين الناظمة للعلاقات الدولية بحماية ودعم أمريكيين.
وبلغ هذا التمرّد ذروته، عندما انحاز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إلى سياسة الأمر الواقع التي فرضها الاحتلال الصهيوني، على حساب الشرعية الدولية التي وضعتها الأمم المتحدة لحلّ النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي.
وأعلن ترامب منذ توليه قيادة أمريكا، القدس عاصمة كاملة للاحتلال الإسرائيلي، ونقل سفارة بلاده إليها، قبل أن يعلن في الأسابيع القليلة الماضية عن خطة لإنهاء القضية الفلسطينية تقوم على حسابها دولة عنصرية يهودية تحت مسمى «صفقة القرن».
وحضرت هذه الخطة «المؤامرة»، في مؤتمر ميونيخ، واعتبر رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية أنها «ولدت ميتة وسيتم دفنها قريباً».
وقال اشتية، أمام المشاركين في المؤتمر، «إن الخطة الأمريكية ليست أكثر من مذكرة تفاهم بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وترامب»، مفيدا « بأن هذا الاقتراح سيترك الدولة الفلسطينية مجزأة ومن دون «سيادة» مما سيسمح لإسرائيل بضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية».
وأوضح المتحدث، أن الإدارة الأمريكية وحليفتها إسرائيل، لا تريد أي تفاوض مع الجانب الفلسطيني لتمرير الخطة، وإنما الحصول على القبول الذي ينهي وجود قضية مركزية وتاريخية اسمها «فلسطين».
وقال: «هذا الاقتراح ليس اقتراحًا للتفاوض، بل خطة للتنفيذ منحت الإسرائيليين حقا فوريا في بدء ضم وادي الأردن والقدس وأجزاء أخرى من الأرض الفلسطينية»، مشيرا إلى استثمار نتنياهو وترامب في هذه المؤامرة، من أجل الإفلات من المحاكمات في بلدانهم وتحقيق مكاسب انتخابية.
ويستنج، من مؤتمر ميونيخ في طبعته الأخيرة، أن المشاركون من غرب وشرق المعمورة، متفقون، على المضي قدما في التنافس والصراع، مما ينذر بسنوات أخرى من الحروب والأزمات.
يذكر أن المؤتمر ينعقد كل شهر فيفري من كل عام، وأول نسخة له كانت عام 1963 وكان يسمى اللقاء الدولي لعلوم الدفاع، قبل أن يغير الاسم إلى «المؤتمر الدولي لعلوم الدفاع»، ليصبح لاحقا «مؤتمر ميونيخ للأمن».