عودة روسيا إلى مسرح العلاقات الدولية أحدث توازنا ملحوظا في مسار «القرارات» الأحادية التي أراد ترامب ومن سبقوه الانفراد بها، أو بالأحرى فرضها على الشعوب بكل الوسائل المتاحة، كان آخرها صفقة القرن، الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، وإلقاء بها في غياهب الأرشيف، كما خطط لها جماعة البيت الأبيض غير أن هذا «التحايل». سقط سقوطا حرا برفضه من قبل الجميع جملة وتفصيلا.
إنهيار جدار برلين وتفكك الجمهوريات السوفياتية إلى دويلات وسقوط المعسكر الشرقي بما فيه حلف وارسو والـ «كوميكون» وبروز الولاءات السياسية إلى الغرب، ولّد الاعتقاد الراسخ لدى الرأي العام بأننا دخلنا منطق القطبية الأحادية بقيادة الولايات المتحدة.
هكذا سار الحال على هذا المنوال لسنوات عديدة بسعي المؤسسات السياسية والعسكرية بإدماج كل من انسحب عن المنظومة «الشعبية» في أحضان تلك الأطر التقليدية، منها الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي وفضاءات أخرى.
وما إن تنحى غورباتشيف واتباع «قلاسنوست» وغيرهم من دعاة الانفصال بدأت بوادر عودة روسا إلى الساحة العالمية خاصة مع مجيء بوتين إلى الحكم والشروع في صياغة توجهات داخلية وخارجية قادرة على مواجهة الآخر بالاعتماد على قاعدة الندية والمنافسة في شتى القطاعات الجيو استراتيجية.
إعادة ترتيب البيت الداخلي، وفق نظرة ثابتة بإقامة نظام مؤسساتي قوي بدءا بالرئاسة والدفاع والخارجية سمح حقا باكتشاف هذه «الفواعل» لاحقا في كيفية إدارة الأزمات الطارئة، استنادا إلى التنسيق المحكم والانسجام التام بين الأجهزة يظهر بوضوح في التصريحات الصادرة عن مسؤولين روس.
هذا الثلاثي المؤسساتي المبني على شخصيات ذات التأثير في صناعة الأحداث، الرئيس بوتين ووزير الدفاع شويقو، ووزير الخارجية لافروف يضاف إليهم شخصيات ذات الاطلاع الواسع على الملفات الدولية، صحّحت مسار بؤر التوتر تصحيحا واضحا باتجاه فرض التوازن أحيانا والغلبة أحيانا أخرى.
المنعطف الحاسم في هذا التوجه الجديد هو ما حدث في ليبيا عندما أقدم الغرب على الإطاحة بالقذافي في ظرف قياسي كان مدعما بقرار من مجلس الأمن لم يسمح لأحد بمعرفة أو الاطلاع على خلفياته فيما بعد على أنه «صنع» من أجل أغراض ضيقة جدا منح تلك التغطية لفرنسا وغيرها من تدمير البنية التحتية لهذا البلد، مباشرة تركت الأوضاع على ما عليه اليوم.
هذه الوقائع السياسية والعسكرية المفبركة عمدا تفطن لها القادة الروس بالرغم من التأخر المسجل، على أنه مخطط لها تخطيطا دقيقا، وهكذا تهاوى «حكم الفاتح» وأفرز فراغا واضحا، وبقيت هذه الحادثة مرجعية بالنسبة للمسؤولين في روسيا بعدم تكرارها على الطريقة الغربية.
بالندلاع الأزمة السورية، بين الدولة المركزية والجماعات المسلحة تفادى الروس الوقوع في أخطاء ليبيا وكاد المسلحون أن يستولوا على المدن الاستراتيجية بفضل ما تلقوه من دعم من الأطراف المهتمة بالنزاع الإقليمي أنذاك بقيادة الولايات المتحدة، لولا تدخل روسيا في الوقت المناسب مانعة من تعقد الوضع أكثر فأكثر وهذا باسترجاع مناطق هامة كحلب وغيرها.
هذه العينات المذكورة سالفا، تبين الإستراتيجية التي اقتحم بها الروس معترك فرض الذات على صعيد العلاقات الدولية واستعادة المبادرة في التكفل بالملفات الشائكة والحساسة في آن واحد، وهذا وفق منطلقات الحكمة والهدوء بعيدا عن التهور وهذا بإعطاء الأولوية للحوار والتشاور وكل تجاوز يريده الآخر يقابل برد حازم لذلك فإن روسيا عملت على جبهتين في سوريا الأولى ذات الطابع العسكري والثانية قائمة على التهدئة، وهكذا أقامت آلية مناطق خفض التصعيد، يضاف إليها المصالحة، وهذا بعودة المسلحين إلى حياتهم السابقة.
استطاع هذا الحضور الروسي من إعادة التوازن ثم الغلبة وهذا بانسحاب القوى الإقليمية من الصراع بعد التدخل غير المنتظر لهذا البلد وحسم الموقف لصالحه وكم من مرة حاولت أمريكا التدخل، لكنها فشلت في ذلك خاصة عندما أثارت قضية السلاح «الكيماوي» ببث صور مفبركة تظهر إبادة جماعية للأفراد.
بالرغم من كل هذا فإن حدة النزاع انتقل إلى أدلب في صورة مختصرة للأحداث التي كانت واقعة هنا وهناك ببروز طرف آخر، ألا وهو تركيا حاشدة قواتها في كل تلك المنطقة لتكون المعركة الفاصلة في أراضي الغير بدلا من أراضيها ولا أحد يدري كيف سينتهي هذا النزاع المسلح ؟ وهذا على ضوء ما يجري.