في خطوة لإنهاء حالة الترقب التي شهدتها القارة الأوروبية بخصوص ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي «بريكست» وقّعت رئيسة المفوضية الأوروبية «أورزولا فون دير لاين» ورئيس المجلس الأوروبي «شارل ميشال» على اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي كثيرا ما أثارت الجدل حول تداعياتها الاقتصادية ومستقبل المسار التكاملي للاتحاد الأوروبي الذي أضحى على المحك بفعل البريكست البريطاني الذي يعد ضربة قاسمة للاندماج والتكتل الأوروبي; كما يقول الدكتور إدريس عطية; أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر.
الخروج البريطاني هزّة كبيرة في مسار الاندماج الأوروبي
بعد 47 عاما من العضوية، ها هي بريطانيا تستعد للخروج من الاتحاد الأوروبي رسميا، يوم الجمعة القادم، ما تعليقكم على هذا الحدث العالمي التاريخي؟
هذا حدث كبير وكسر ضخم في هيكل أهم مؤسسة تكاملية قارية في العالم، لأن الاتحاد الأوروبي كان النموذج التكاملي الأبرز في تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة، لكن الخروج البريطاني يعتبر علامة فارقة في تاريخ القارة الأوروبية، وهو في حقيقة الأمر هزّة كبيرة في مسار الاندماج الأوربي.
ماذا يعني «بريكست»، برأيكم وما الأسباب التي جعلت البريطانيين يختارون الطلاق مع أوروبا؟
البريكست تعني الخروج أو كما أشرت الطلاق، لأن البريكست في فحواه هو احترام للإرادة الشعبية التي عبر عنها الشعب البريطاني بكل ديمقراطية عندما هزم معسكر الخروج معسكر البقاء، نعم القرار كان سيئا وليس في صالح بريطانيا، لكنها إرادة الشعوب.
اتفاق الخروج ينصّ على فترة انتقالية مدّتها 11 شهرا تنتهي آخر السنة، ما هي مراحل تنفيذ بريكست، وكيف تتصوّرون شكل الشراكة التي ستقوم بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي؟
فترة 11 شهر هي فترة العدة بعد الطلاق البريطاني من الإتحاد الأوروبي، وبالتالي هي مرحلة مهمة للتأسيس لعلاقات جديدة بين مؤسسات الإتحاد الأوروبي وبريطانيا المنفصلة، لأنها كما أشرتي فترة انتقالية هامة في تاريخ الاتحاد وبريطانيا، خاصة من خلال تسليم العديد من الصلاحيات من بريطانيا للاتحاد الأوروبي، وكذلك انسحاب بريطانيا الجزئي والمرحلي من هياكل الاقتصاد، وعلى الرغم من أن مسيرة 47 سنة من التكامل لا يمكن مسحها في 11 شهرا، إلا أن هذه الفترة تعتبر مهمة، رغم أنها ستكون قاسية على بريطانيا خاصة في الشروط الاقتصادية والمالية.
أما بخصوص تنفيذ بنود البريكست، كما ذكرت هي صعبة جدا على بريطانيا كدولة وعلى الشعب البريطاني أيضا، لأن الاتحاد الأوروبي سلّط عددا كبيرا من العقوبات والتعويضات على بريطانيا، ربما تعتبر هذه إجراءات ردعية لمنع أي طرف أوروبي آخر من محاولة الخروج من الاتحاد، رغم أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت الضامن المالي لبريطانيا والداعي الأساسي لتفكيك الاتحاد الأوروبي المنافس لها اقتصاديا واستراتيجيا، لا ننسى أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية قد وعدت في وقت سابق على بريطانيا مساعدتها لإطلاق سياسة خارجية مستقلة عن المظلة الأوروبية، حيث ستنسحب أمريكا تدريجيا من ملفات الشرق الأوسط، بينما تتزعم بريطانيا هذه الملفات وبالتالي عودة بريطانيا لمناطق نفوذها التقليدية وفيما يتعلق بشكل الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا سوف يكون حادا ولا يمكن إطلاقا أن يصّب في الصالح البريطاني.
تداعيات إقتصادية ثقيلة لخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي
مخاوف كثيرة تسكن البعض ممن يعتقدون بأن الخروج البريطاني ستكون له تبعات وانعكاسات سلبية على بريطانيا، خاصة في الجانب الاقتصادي، فهل هذه المخاوف مشروعة برأيكم، وما هي تبعات الخروج الإيجابي منها والسلبي؟
بالفعل المخاوف كبيرة، لأن أزيد من 60 % من الشعب البريطاني كانوا يشتغلون في مؤسسات اقتصادية ومستثمرات كانت تابعة للفضاء الاقتصادي للاتحاد الأوربي والغريب أن أغلب سكان المناطق المستفيدة من الاتحاد الأوروبي في جنوب بريطانيا وشرقها هم من صوّتوا لصالح الخروج وبالتالي فإن انسحاب هذه الامتيازات وتراجع اليد الممدودة من الاتحاد الأوروبي سيضّر ببريطانيا، ناهيك عن الضرر الاجتماعي فسكان بريطانيا لم يعودوا مواطنين أوربيين.
بوريس جونسون حقّق ما عجزت عنه تريزا ماي عن تحقيقه، فكيف استطاع تنفيذ الخروج، وقد مرّ على تصويت البريطانيين عليه أربع سنوات كاملة؟
بوريس جونسون متأثر جدا بشعبوية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حتى في السلوك والتصرّفات، كيف لا وكلاهما يعتبر متطرفا يؤمن بالنزعة الوطنية ويرفض الآخر، فجونسون أدار ملف البريكست من هذا المنطلق الشعبوي اللامسؤول، عكس تيريزا ماي المرأة الحديدية التي قاومت إلى آخر لحظة في مسيرتها السياسية إلى غاية استقالتها عشية نجاح معسكر الخروج قبل أربع سنوات.
برأيكم من هو الرابح والخاسر من البريكست، بريطانيا أم أوروبا؟
أعتقد أن الاثنين خاسران، فبريطانيا خسرت حضنا إقليميا وإطارا جامعا للسياسات الأوروبية، خاصة وأنها كانت بلدا قائدا في الاتحاد، وهي من أوائل الدول المؤسسة للتجربة التكاملية، وخسارتها اليوم سوف تكون اقتصادية أكثر من أي شيء آخر، أيضا الاتحاد الأوروبي خسر أحد أعضائه، أو بالأحرى خسر أحد أطرافه الأساسيين، لأن بريطانيا لها ثقل استراتيجي وسياسي ووزن اقتصادي معتبر جداً، لأنها ببساطة كانت الاقتصاد الثاني في الإتحاد الأوروبي بعد ألمانيا.
الاتحاد الأوروبي أمام رهان التفكك وانتقال العدوى
مع انسحاب بريطانيا من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، سيتقلّص عدد الدول الأعضاء إلى 27، ألا تتوقّعون أن تسير دول أخرى على خطى البريطانيين، وهل سيصمد التكتل الأوروبي مع ظاهرة التمدّد القومي التي طغت على الدولة؟
ظاهرة عدوى الانفصال أصبحت حقيقة في الإتحاد الأوروبي، سواء إذا أردنا التحدث عن العوامل الداخلية من خلال انتشار ظاهرة اليمين المتطرف في أوروبا وصعودها، خاصة وأن هذا التيار الأصولي متمسك بالعودة للسياسات الوطنية والقومية في أوروبا، ورافض للاندماج في الإتحاد الأوروبي وغير راغب إطلاقا في التعامل مع المؤسسات الفوق وطنية، هذا إلى جانب العوامل الخارجية، فالولايات المتحدة الأمريكية هي صاحبة الإيعاز للمملكة المتحدة بفكرة الخروج، وهي تعرض اليوم 100 مليار دولار أمريكي على فرنسا من أجل الخروج، وهي راغبة في تفكيك الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى الدور الروسي في مناكفة سياسات الاتحاد والرغبة المستمرة في إضعافه من خلال ابتلاع أجزاء من أوروبا الشرقية واستغلال قضية الغاز في زعزعة أوروبا، ناهيك عن الدور الصيني السلبي بالنسبة للاتحاد الأوروبي، فالصين تتفاوض بشكل منفرد مع دول الاتحاد الأوروبي في إطار مشروعها طريق الحزام، وقد حظي مشروعها بموافقة ايطاليا، وهو ما أثار حفيظة بقية الشركاء الأوروبيين.
ما مستقبل التكتلات والاتحادات في العالم، مع تسويق الولايات المتحدة الأمريكية لفكرة الإنعزالية؟
الولايات المتحدة الأمريكية ضد أي هيمنة إقليمية لأي طرف دولي كان، فهي مع تفكيك الأقاليم وضربها في مهدها ومع ذلك لا يمكن أن نحكم على نجاح أو فشل الإتحاد الأوروبي على مسار بقية التجارب التكاملية في العالم، خاصة أن هناك أطرافا عازمة على التعاون أكثر، فأوروبا في أصلها كانت ممزقة، لأنها شهدت حرب الثلاثين سنة وحرب السبعين سنة وحرب المائة سنة، وكذلك كل حروب القرن العشرين، بداية بأولى حرب عالمية، وكذلك الحرب العالمية الثانية وحتى الحرب الباردة التي قسّمت أوروبا إلى قسمين وللأسف هذه الجغرافيا، وهذه التقسيمات الأوروبية قد تتجه ببعض الدول العربية إلى المطالبة بتجديد النظام الإقليمي العربي، ناهيك عن مؤشرات نجاح التجربة الإفريقية وصمودها وكذلك صمود الكثير من التجارب في آسيا وأمريكا الجنوبية.
بذلك فإن النظام العالمي الآخذ في التشكل سوف يضع في حسبانه التكتلات الإقليمية كأطراف وازنة فيه ومراكز ثقل متعددة، وبالتالي لا نهاية للتجارب التكاملية.
كلمة أخيرة..
صحيح أن الدولة ولدت ولادتها الطبيعية في أوروبا وأرادت أوروبا أن تشهد وتؤسس لميلاد ما بعد الدولة من خلال التحوّل للدولة الإقليمية، لكن «البريكست» البريطاني كان ضربة قاسمة لهذا الخيار الأوروبي.