كتبت صحف أوروبية، قبل انعقاد مؤتمر برلين حول ليبيا، أن قدرة ألمانيا على إنجاح الاجتماع، تعود لعدم امتلاكها ماض استعماري في هذا البلد الغني بالنفط وكونها غير منخرطة في القتال الدائر بين الأطراف المتصارعة. فماذا يمكن أن يقال عن نزاهة الجزائر وأهليتها للعب دور بارز في إدارة التسوية السياسية للأزمة؟. وهل بدأت بوادر محور برلين-الجزائر في التشكّل لمساعدة الشعب اللّيبي على تجاوز محنته؟
منذ الدورة 74 للجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت في سبتمبر الماضي، شرعت ألمانيا وبالتنسيق مع البعثة الأممية في ليبيا، في تعبئة دبلوماسية رفيعة المستوى لجمع القوى الدولية المؤثرة في المشهد الليبي من أجل حلحلة الأزمة المعقدة هناك.
وعلى مدار خمسة أشهر من اللقاءات والمشاورات، هيّأت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أرضية توافق أولوية بين الأطراف الدولية التي استقرت على دعوتها من أجل حضور مؤتمر برلين.
ودعت ألمانيا للمؤتمر، أعضاء مجلس الأمن الدولي الخمسة إلى جانب الجزائر، تركيا، الإمارات العربية المتحدة، مصر، إيطاليا والكونغو، وكذا الاتحاد الإفريقي، الاتحاد الأوروبي الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
يحسب للقوة الاقتصادية الاولى في الاتحاد الأوروبي، انتهاجها مقاربة دبلوماسية لبحث الأزمة اللّيبية، من خلال البحث عن التوافق بين الدول المؤثرة والدول المتوّرطة والدول الوازنة فيما يجري على الأرض، موّجهة رسالة صريحة للعالم مفادها بأن ما تعانيه ليبيا منذ 2011 مرّده التدخلات الأجنبية وتداخل المصالح وإعادة التموقع على الخارطة العالمية من قبل القوى الكبرى.
لقد صنعت الدبلوماسية الألمانية صورة إيجابية لنفسها، عندما باشرت التحضير للمؤتمر الذي كان مقررا في نوفمبر الماضي قبل أن يتأجل لـ19 من الشهر الجاري، وظهرت كبلد حيادي بإمكانه تقريب وجهات النظر بين القوى الكبرى وبين الفرقاء الليبيين.
وبحسب الصحف الغربية الصادرة، أياما قليلة قبل انعقاد مؤتمر برلين، فإن عدم تورط ألمانيا تاريخيا في استعمار ليبيا وعدم انحيازها للأطراف الليبية المتصارعة فيما بينها وغير مسجلة على قائمة الدول التي خرقت قرار مجلس الأمن (رقم 1970) القاضي بمنع توريد الأسلحة إلى ليبيا، عوامل أهّلتها للاضطلاع بدور محوري في هذه الأزمة المتفاقمة.
ساعدت الإمكانيات الاقتصادية الهائلة التي تتمتع بها ألمانيا على تبوإ دور مركزي في تحريك الأوضاع باتجاه الانفراج، إلا أنها تملك العائدات المالية الكافية لتمويل آليات الاتفاق المصادق عليه.
في المقابل، لا تخفي ألمانيا، أن انخراطها في المساعي الدبلوماسية لحل الأزمة الليبية، نابع من تخوفات تتقاسمها مع المجموعة الأوروبية بشأن قوافل المهاجرين غير الشرعيين وإمكانية اندساس الذئاب المنفردة من الإرهابيين وسطهم.
ماذا عن الجزائر ؟
وإذا كان الماضي النظيف لألمانيا في ليبيا وعدم تورّطها في استعمارها، عاملا أساسيا أكسبها مصداقية قيادة وساطة أولية دولية تحت مظلة الأمم المتحدة، فالجزائر تملك أوراقا أقوى تمنحها الأهلية والنزاهة لاحتضان الحوار بين الليبيين.
يمكن بسهولة ملاحظة الفرق بين دولة لا تملك ماض استعماري في بلد وبين دولة تتحرك من منطلق رد الجميل للشعب الليبي الذي وهب أرضه كقاعدة خلفية استراتيجية للثورة التحريرية الجزائرية. ولا تترك الجزائر فرصة إلا وتؤكد أن موقفها مما يجري في ليبيا، نابع من مبدأ أخلاقي وحضاري يرتبط بأواصر الأخوة وحسن الجوار والماضي المشترك.
يرتكز الموقف الجزائري على سياسة خارجية ثابتة، تمنع بموجب الدستور، التدخل في الشؤون الداخلية للدول والمساس بوحدتها الترابية وسيادتها الوطنية وشرعية مؤسساتها.
شدد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، في مؤتمر برلين على ارتباط الأمن الجزائري بالأمن الليبي وتقاسم الأعباء الأمنية عالية الخطورة جراء انتشار الأسلحة بشكل فوضوي وانتعاش الأنشطة الإرهابية في الساحل الإفريقي في الأشهر الأخيرة بفعل التصعيد العسكري بين الفصيلين المتناحرين في هذا البلد. ولا تدعم الجزائر طرفا معينا في ليبيا، كما تلعب دورا استراتيجيا في منع وانتقال الأسلحة عبر الشريط الحدودي الواسع الذي تتقاسمه مع ليبيا، وتتوخى أقصى درجات الحياد وتدّعم شرعية المؤسسات المعترف بها دوليا، باعتبارها البناء المؤسس لإطلاق عملية سياسية تفضي إلى حل سياسي توافقي. كما فعلت في مالي، تعتبر الجزائر وحدة وسيادة ليبيا خطّا أحمر، وتعتبر العاصمة طرابلس رمزا للوحدة والسيادة ولا يجب أن تسقط في أيدي المليشيات المسلحة.
ينقل التاريخ تجارب مريرة عن سقوط العواصم في أيدي المليشيات، وما نجم عنها من تقسيم وتشرذم وانهيار كلي لأركان الدول.
قيادة الحوار الشامل
لقد غاب الحياد والنزاهة قبيل انعقاد مؤتمر برلين عن كثير من الأطراف التي دعيت إليه، بل بذلت المستشارة الألمانية والأمين العام للأمم المتحدة جهدا كثيفا من أجل إقناعها بوقف دعم الأطراف المتناحرة، والكف عن توريد الأسلحة باحترام قرار مجلس الأمن الصادر سنة 2011.
حذرت الجزائر مرارا من مخاطر التدخل الأجنبي في ليبيا، وقالت بصوت مرتفع أنها لن تقبل بهكذا عمل مهما كانت الجهة التي تقف وراءه، وشددت على أن الحل العسكري لن يؤدي إلا لتفاقم معاناة الشعب الليبي.
ووقّع المشاركون في مؤتمر برلين على البيان الذي ينص على أنه «لا حل عسكري للأزمة اللّيبية»، ما يعني أن الدول الداعمة لجهة على حساب أخرى في ليبيا اعترفت بفشل ذريع لسياسة «فرض الأمر الواقع».
عوّل حفتر على هجوم خاطف لن يدوم أكثر من 48 ساعة للسيطرة على العاصمة طرابلس ووضع المجتمع الدولي أمام حتمية التعامل مع ما هوقائم، قبل أن يفاجئ بمقاومة شرسة من قبل قوات حكومة الوفاق اللّيبية، ما شكل انتكاسة قوّية له وللجهات الأجنبية التي تدّعمه.
عادت إذن، لعبة السيطرة والنفوذ في ليبيا إلى المرّبع الأول، أي إلى الطرح الذي رافعت من أجله الجزائر مطوّلا، ألا وهو»ترك مستقبل ليبيا لليبيين ليقرّروه بأنفسهم».ولا سبيل للحل إلا حوارا شاملا ترعاه دولة تتمتع بالنزاهة والمصداقية.
في ظل تنافس كبار مجلس الأمن الدولي والقوى الأخرى على اقتسام آليات مراقبة اتفاق برلين واحترام قرار منع توريد الأسلحة، أبدت الجزائر استعدادها لاحتضان الحوار بين «الأشقاء اللّيبيين».
تحوز الجزائر على رصيد دولي مشهود في قيادة الوساطات آخرها الوساطة الدولية في مالي، ولا يمكن أبدا التشكيك في امتلاكها كافة أدوات تفكيك الألغام المزروعة بين اللّيبيين ودفعهم إلى اتفاق يؤسّس للدولة اللّيبية الحديثة.