مهما تكن التبريرات السياسية والقانونية الصادرة عن المسؤولين الأمريكيين تجاه اغتيال اللواء قاسم سليماني قائد قوة فيلق القدس، فإنها لا ترتقي إلى وقع الصدمة العنيفة التي لحقت بالقيادات الإيرانية التي لا ترى أمامها اليوم سوى كيفية رد الصاع صاعين إن آجلا أم عاجلا.. ففي فترة قياسية حدّد الإيرانيون ٣٥ هدفا أمريكيا أربك فعلا ترامب الذي عمل خلال الساعات الأولى من العملية على دعوة إيران إلى ضبط النفس وخفض التوتّر ونسيان ما جرى.. هل هذا منطقي ومعقول؟.
إننا حقا أما سياسة «تأديب الشعوب» وفرض مقولة «من ليس معي فهو ضدي»، والأكثر من هذا التطاول على الآخر ومحاولة تدجينه وتقزيمه إلى درجة محوه من الوجود وهذا ما يستشف من كلام الرئيس الأمريكي الذي لم يقدّر حجم المأساة والمصاب الجلل الذي تعرض له الإيرانيون بفقداهم لشخصية عسكرية بارزة كانت تنشط على محور دمشق ـ بغداد زيادة على تغريداته الإستفزازية منها «إيران لم تكسب الحرب».. لكنها لم تخسر المفاوضات وهي رسالة واضحة المعالم كي يتسنى لهذا البلد الذهاب إلى طاولة الحوار.
هذا الخيار غير مطروح حاليا ومن المستحيل أن يوافق عليه الإيرانيون وهم تحت تأثير تصفية ذراع من أذرعهم الضاربة في ملاحقة الإرهاب والدرع الواقي من انهيار الدول المركزية في المنطقة جراء جحافل الجماعات المسلحة المكلفة بنشر الرعب في ربوع البلدان الآمنة، هذا لم يرض عنه الأمريكيون أبدا منذ اندلاع الأزمة السورية ووقوع الموصل تحت «خلافة» البغدادي وطرد عناصر «جبهة النصرة» من عرسال في لبنان ومنعهم من «الإقامة» في النقاط الإستراتيجية.
في خضم كل هذا الزخم أفل نجم الوجود الأمريكي في هذا الفضاء الحيوي، ما عدا الحديث عن دوريات مشتركة الخريطة الأمنية في هذه المنطقة وإعادة صياغة منطلقات التفاهمات قصد الوصول إلى الاستقرار المأمول حتى وإن كان صعبا ومعقدا.. وقد لاحظ الأمريكيون بأن روسيا تلقى كل الترحاب كطرف أساسي في هذا المسعى الشامل.. في حين أن الوحدات الأمريكية مصنفة على أنها غير مؤهلة كشريك في العملية العسكرية.
هذا الإقصاء أو قل «التهميش» شعر به الأمريكيون منذ مدة طويلة واحتاروا فعلا لهذا الواقع المفروض عليهم.. لم يستطعوا تغييره قيد أنملة نظرا للاعتبارات منها خاصة غياب ما يعرف بالحلفاء إذ وجدوا أنفسهم محاصرين بالقوات الروسية، السورية والرديفة من كتائب حزب الله، وفيالق أخرى منها القدس وبدر وهكذا بقي الصراع خافيا غير معلن بين إيران والولايات المتحدة لم يصل إلى أوجه.. بل سار على حقل من الألغام، تركز على الملف النووي رافقته عقوبات شديدة وقاسية من أجل كبح جماح إيران ولي ذراعها حتى تتراجع عن مواقفها وقد راهنت على الجانب المالي، خاصة لقطع الإمدادات عن كل تلك الحركات التابعة لها مستهدفة فيلق القدس لقاسم سليماني.
هذا اللواء الإيراني تحوّل إلى شبح بالنسبة للأمريكيين.. مطلوب ومبحوث عنه في كل مكان ولم يترك لجواسيسهم فرصة لاصطياده والتخلّص منه كما كان الحال لبن لادن والبغدادي.. وإنما كل خطواته محسوبة غير أن اغتياله بتلك الطريقة بواسطة «طائرة مسيرة» أثار تساؤلات المتتبعين.. هل فعلا قصف بالصواريخ أم فجرت السيارة التي كانت تقلة؟ كون العملية ما تزال غامضة. ولم يكشف عن أسرارها حتى الآن؟ فلماذا يذهب سليماني إلى بغداد في ذلك الوقت وهو يدرك بأن عيون الجميع تراقبه ولن تترك له فرصة البقاء على قيد الحياة هذه المرة وهذا ما حدث فعلا.
توزيع الأمريكيين التهم على الشعوب لا ينتهي تارة باسم محور الشر وتارة باسم الدول المارقة، والفاشلة والإرهاب جعلهم يؤدون دور دركي العالم بامتياز، آخرها تصنيف قاسم سليماني والشيخ قيس الخزعلي الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، وقبله نصر الله وغيره من رموز المقاومة الذين اعترضوا على تنفيذ المخطّطات الجهنمية بمنطقة الشرق الأوسط ويتعرضون للتصفية الواحد تلو الآخر اليوم.. لتمرير ما يريدونه من مشروع استباحة المنطقة.
لذلك، فإن اغتيال سليماني ليس له علاقة بأحداث السفارة الأمريكية بالمنطقة الخضراء، ولا بالمخطط الكبير لقتل الأبرياء، بل غاية ذلك وقف المد المقاومتي في الشرق الأوسط، وهذا بإسكات الصوت المدوّي لنضال الشعوب التواقة إلى الاستقرار والرافضة للهيمنة الأجنبية، هذا هو طبيعة الصراع اليوم بعد أن استحال على هؤلاء إخضاع هذا الصمود بمفاوضات الاستسلام وصفقات التنازلات وشراء الذمم وسيكون حكم التاريخ قاسيا ضد كل من يتاجر بالقضايا المصيرية للشعوب.