يواجه الاتحاد الأوروبي، مشاكل داخلية غير مسبوقة، ظهرت بشكل جلي في تنافر مواقف أعضائه حيال عديد القضايا الحيوية، كما تعترضه عراقيل كبرى في مواصلة فرض نفسه كأحد صناع السياسات الدولية، ويسجل أضعف حضور له منذ تأسيسه في تسعينيات القرن الماضي.
تزايد حجم التباين في المواقف بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، بشكل لافت في السنوات الأخيرة، ووصل الأمر بين بعض العواصم إلى تبادل الاتهامات وسحب السفراء مثلما حصل بين باريس وروما قبل أشهر بسبب قضية الهجرة غير الشرعية.
الخلافات داخل هذا الاتحاد الذي تأسس سنة 1992، عقب اتفاقية ماسترخيت على أفكار ومبادئ تعود لخمسينيات القرن الماضي، طفت إلى السطح بسبب تصاعد النزعة القومية والانكفاء على السيادة الوطنية التقليدية لشعوب القارة، والتي ترجمت في برامج الأحزاب الشعبوية المتنامية القوة.
وتعالت بشكل لافت ضغوط مواطني الدول الأعضاء على حكوماتها من أجل تفادي الرضوخ لبروكسل عند إقرار السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وشملت حتى الدول الأكثر تأثيرا على المجموعة على غرار فرنسا وإسبانيا وإيطاليا.
ومنذ العام الماضي، تطالب حركة «السترات الصفراء» في فرنسا، بالتخلص من التبعية المطلقة لسياسة الاتحاد الأوروبي، معتبرة أنها سبب تدهور القدرة الشرائية للطبقة الوسطى وتنامي البطالة.
وحتى على الصعيد السياسي، اضطرت باريس لإطلاق استشارة واسعة من أجل إعادة النظر في الديمقراطية التشاركية، بعدما فقد مواطنوها ثقتهم في الجمعية الوطنية (البرلمان)، باعتباره مكبلا في سنّ النصوص التشريعية المصيرية، لأن كل شيء مرتبط بالسياسة العامة للاتحاد الأوروبي ككتلة.
وعجزت دول الاتحاد الأوروبي، عن إيجاد صيغة توافقية بين المبادئ التأسيسية للتكتل وترسانة القوانين الصارمة المسيرة له وبين المطالب المتصاعدة للجبهة الداخلية في كل دولة.
وتعتقد الحكومات الأوروبية أن استمرار المجموعة الأوروبية، هو طوق النجاة الوحيد من انهيار اقتصاداتها المحلية، في ظلّ التحوّلات العميقة التي يعرفها الاقتصاد العالمي. بينما ترى النقابات العمالية أن الاصلاحات الاقتصادية المنتهجة تضرّ بالطبقة الشغيلة، ويعيق الرجوع لبروكسل في كل مرة اتخاذ القرارات اللازمة.
ملف الهجرة
كان ملف الهجرة من أبرز القضايا التي فجّرت الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وعرفت أوروبا موجة هجرة غير مسبوقة، سنة 2014، عقب تعفن الوضع في سوريا وفي كثير من مناطق العالم الثالث، وتعاملت معها بارتباك كبير واضطرت إلى رصد ميزانيات ضخمة لبناء شبكة حدودية قوية تمنع وصول الفارين من مناطق النزاعات إليها.
ورفضت كثير من الدول الأوروبية نظام المحاصصة في اقتسام هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين واللاجئين، بحجة أنها ليست مسؤولة عن مآسي الآخرين، وطالبت بطريقة غير مباشرة دول نافذة في حلف الناتو (فرنسا) بتحمل مسؤولية انخراطها في عمليات عسكرية ضد كل من سوريا وليبيا.
ومارست الدول الواقعة في الحدود الخارجية للاتحاد الاوروبي ضغوط شديدة على الاتحاد الأوروبي من أجل التوصل إلى اتفاق أكثر عدلا لتقاسم أعباء المهاجرين، وهو ما حصل في جوان 2018، عندما أبرم اتفاق جديد، يجد صعوبات ميدانية في التنفيذ على أرض الواقع.
واتهمت ايطاليا وإسبانيا دولا داخل المجموعة بالتخلي عنها، واضطرت الحكومة السابقة المشكلة من قبل التيار الشعبوي المتطرّف إلى غلق الموانئ أمام سفن الانقاذ في المتوسط ورفض استقبال المهاجرين على متنها.
وفي فيفري الماضي، اندلعت أخطر أزمة بين فرنسا وايطاليا منذ سنة 1940، اضطرت على إثرها باريس لسحب سفيرها لعدة أيام قبل إعادته.
وبدأت الأزمة باتهام روما لباريس بطرد مهاجرين غير شرعيين إلى الحدود الإيطالية قبل أن تتصاعد التصريحات وتأخذ أبعادا أخرى، حيث قال نائب رئيس الوزراء أنذاك ورئيس حزب حركة «خمسة نجوم» لويجي دي ماتيو» أن سياسات فرنسا في القارة الإفريقية هي السبب الرئيسي في أزمة الهجرة».
وقال دي ماتيو، «لو لم يكن لفرنسا مستعمرات أفريقية لأن هذه هى التسمية الصحيحة لكانت الدولة الاقتصادية الـ15 فى العالم فى حين أنها بين الأوائل بفضل ما تفعله فى أفريقيا».
وربط اليمين المتطرّف الايطالي بقيادة وزير الداخلية ماتيو سالفيني علاقات مع حركة السترات الصفراء ودعم احتجاجاتهم وقال «أتمنى أن يتخلصوا سريعا من رئيسهم (ماكرون) السيء جدا».
البريكست
ومن أكبر الضربات التي تلقاها الاتحاد الأوروبي قضية البريسكت، والتي تخصّ انسحاب بريطانيا من الاتحاد.
ووافق البريطانيون سنة 2016، في استفتاء عام، على الخروج من التكتل، وسرعان ما امتدت حمى الانسحاب من المجموعة لدول أخرى على غرار هولندا، بفعل تصاعد المصلحة الوطنية لدى التيارات الشعبوية.
وبسبب الإجراءات البيروقراطية الصارمة التي أقرها ميثاق الاتحاد الأوروبي للراغبين في الخروج من الهيئة عرقل مسار البريكست، ولازالت الأحزاب البريطانية تتصارع فيما بينها على كيفية تحقيق هذا الخروج.
حالة الانسداد الحاصلة في لندن منذ 3 سنوات، أوقفت موجة تفتت هذا التكتل، لكنها مرشحة للعودة في ظل الضعف الواضح في إيجاد البدائل الفعالة للمشاكل والثغرات التي برزت كتحديات جادة في السنوات الأخيرة.
العلاقات الدولية
مع بلوغ دونالد ترامب البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة الامريكية سنة 2016، انكشف جليا للاتحاد الأوروبي حجمه الحقيقي ومدى تأثيره في العلاقات الدولية.
فالدول الاوروبية مجتمعة لم تستطع ثني واشنطن عن التراجع على اتفاق كوني كاتفاق باريس للمناخ، وبقيت مكبلة تشاهد ترامب وهو ينسحب من الاتفاق النووي الموقع مع ايران سنة 2015، بل وقدمت وعودا لطهران بشأن تسوية الخلاف لكنها فشلت حتى في حماية شركاتها من العقوبات الامريكية في حالة ما واصلت النشاط لديها.
لقد أمعن الرئيس الأمريكي في إهانة الاتحاد الأوروبي من خلال رفع الرسوم الجمركية على السلع والمنتجات الأوروبية وفي كل مرة يخرج فواتير بملايير الدولارات كديون على الاوروبيين ينبغي تسديدها للحلف الأطلسي.
وتجاوز ترامب الاتحاد الأوروبي في كثير من القرارات الحاسمة التي اتخذها على غرار الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني.
وحتى في صراعها مع موسكو، وجدت بروكسل نفسها الخاسر الأكبر من العقوبات التي فرضتها على الأخيرة، منذ 2014.
وكشف رئيس مجلس الدوما الروسي فياتشيسلاف فولودين، شهر نوفمبر الماضي، عن تأقلم موسكو مع العقوبات الاوروبية وأنها عثرت على أسواق بديلة لتسويق منتجاتها منذ 2017.
وأشار في المقابل، إلى «خسارة بـ 100 مليار دولار للاتحاد الأوروبي»، جراء العقوبات التي أقرتها ضد بلاد، ويعتبر القطاع الفلاحي أكثر القطاعات تضررا في المجموعة الأوروبية فبعد ضياع السوق الروسية، اضطر كثير من الفلاحين في جبال الألب إلى سكب حليب الأبقار في قارعة الطريق.
المجال الدفاعي
تراجعت أوروبا بشكل رهيب في خارطة الدفاع الكونية، إذا باتت هدفا مفتوحا لأية حرب عالمية مدمرة.
إذ قدر الخبراء، أن العواصم الأوروبية ستكون الخاسر الأكبر من انسحاب كل من واشنطن وموسكو من مـعاهدة الأسلحة النووية المتوسطة، وأنها ستكون الهدف الأقرب للصواريخ الباليستية الإيرانية أو الكورية الشمالية في حالة نشوب نزاع بين هذه القوى والولايات المتحدة الامريكية.
أمام هذا التقييم «السيء جدا»، بالنسبة لبروكسل، رأى الرئيس الفرنسي الشاب إيمانويل ماكرون، بأهمية تشكيل جيش أوروبي موحد، لمواجهة التحديات الأمنية العالية الخطورة، والخروج في المقابل من عباءة حلف الناتو.
اقتراح ماكرون، كلفه هجوما لاذعا من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي خاطبه من حسابه على تويتر قائلا «لولا الولايات المتحدة الامريكية سنة 1945، لكان الشعب الفرنسي يتحدث اللغة الألمانية إلى غاية اليوم»، في إشارة الى احتلال ألمانيا لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.
اختلاف الرؤى بين الدول الأعضاء في الإتحاد الأوروبي، امتد حتى إلى تصور السياسات الدفاعية، حيث عارضت أغلب العواصم، دعوة الرئيس الفرنسي إلى فتح صفحة جديدة مع روسيا، كما انتقدته بشدة بسبب تصريحه عن «موت دماغي للحلف الأطلسي».
ووجدت فرنسا وكثير من الدول الاوروبية الاعضاء في الحلف الأطلسي نفسها، في موقف المتفرج، من التطورات العسكرية التي حصلت مؤخرا في شمال سوريا، حيث سحبت قوات أمريكية وهاجمت تركيا العضو في الحلف قوات كردية دون أي تنسيق مع قيادة الحلف.
كما تزايد في الأسابيع القليلة الماضية حجم التنافس بين موسكو وواشنطن في ليبيا، في وقت كانت تعتقد روما وباريس أنهما الطرفان الأكثر تأثيرا في المشهد الليبي، لكن يبدو أن خيوط اللعبة باتت بيد القوتين الكبيرتين.