استحضر العالم هذا الأسبوع الذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، وهذا يوم 9 نوفمبر 1989، في سياق إستثنائي تشهده العلاقات الدولية في الوقت الراهن، جراء تفاقم بؤر التوتر إلى درجة تدل فعلا على عودة النزاعات الحادة، والعنيفة يتحاشى الخطاب الحالي تصنيفها في خانة الحرب الباردة والتعايش السلمي مثلما كان الحال بالأمس تفاديا للتقسيم النمطي الذي أفرزه إقامة ذلك «الستار الحديدي» في أوت 1961 بعد أن استولى الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون على الجهة الغربية وأخذ السوفيات المناطق الشرقية.
هكذا عاش العالم بقطبين، الغربي بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها والشرقي برئاسة الاتحاد السوفياتي.. توّلد عن هذا الصراع غير المسبوق حلفان عسكريان (الأطلسي ووارسو).
السباق على التسلح، الجوسسة، المناطق أو الفضاءات الحيوية وغيرها من التداعيات الناجمة عن شدة فرض الذات على مستوى المعمورة واستقطاب المزيد من المؤيدين لكل واحد.
ثلاثون سنة عن انهيار «الجدار» الحدث ليس ألمانيا، بل يحمل تلك الأبعاد العالمية كونه أدى إلى انصهار البلدان الشرقية، وتفكك الاتحاد السوفياتي إلى 15 جمهورية استقلت بذاتها وابتعدت عن الكرملين قائمة بذاتها اليوم، هكذا كان القرار آنذاك ومن كل هذا الزخم خرجت روسيا بقيادة أعادت صياغة جديدة لسياستها الخارجية.
بالرغم من محاولات محو آثار هذا الكيان، فشل الغرب في القضاء أو إزالة الركائز الأديولوجية الراسخة في أذهان المسؤولين الروس، الذين رفضوا الاندماج المجاني في منظومة فكرية لا صلة لها بقناعاتهم العميقة، والمبادئ الوطنية التي ترعرعوا عليها، زيادة على رؤيتهم البعيدة لإعادة بعث بلد يتمتع بكل الفرص لاحتلال مكانة مرموقة، واعتلاء المستوى الأعلى في الاداء الداخلي والخارجي، وهذا ما يقف عليه الروس اليوم بكل اعتزاز وافتخار عندما غيروا أطراف المعادلة لصالحهم في فترة قياسية أحرجت الغرب إحراجا لا مثيل له، يسعى اليوم لإقامة علاقات سلام مع روسيا.
تلك الركائز الأيديولوجية هي التي صنعت الفارق مع الغرب باعتماد نظرة الانفتاح على كامل الشعوب على غرار ما كان سائدا بأن الاتحاد السوفياتي هو «الصناعات الميكانيكية» فقط وهو ما كان يتداول في الأدبيات آنذاك والصحيح «الصناعات الحربية» هذا الطرح تم شطبه وروسيا اليوم في حالة جديدة بخصوص مفهومها للعلاقات الدولية بفرض منطق الندية والمواجهة المباشرة مع الآخر وترفض حاليا رفضا قاطعا أن يعمم نموذج ليبيا في سوريا أو في مناطق أخرى من النقاط الساخنة ناهيك عن قضايا معروفة في الوقت الراهن، كلمة روسيا مسموعة ويظهر ذلك بقوة في مجلس الأمن عندما تحرر قرارات منحازة أو غير متوازنة.
في مقابل ذلك فإن إحياء هذه الذكرى البارزة في العلاقات الدولية، ليس لإظهار عنفوان هذا الجدار الذي سحب منه 45 ألف طن من الصخور و120 ألف طن من الاسمنت المسلح على مسافة 155 كلم ومن أطلق عليهم النار وهم في حالة فرار أو من ألقي عليهم القبض وإنما التمعن في مخلفات قرار الهدم، اليوم استشاط ماكرون غضبا ضد حلف وارسو عندما وصفه بأنه في وضعية «موت كلينيكي» أثار سخط نظرائه وأوساط عسكرية الذين أرادوا التقليل من دلالات التصريح وإدراجه في نطاق ضيق لنسيانه فورا، في حين رحّب الروس بمضمونه دون أن يتغاضى الطرف عما قاله ترامب حول هذا الحلف سابقا بخصوص استهلاك أموال الأمريكيين دون فائدة.
وما أوردته أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية التي كانت تقطن القسم الشرقي وتعمل موظفة عادية، من الدعوة إلى حماية القيم الأوروبية أو الغربية غير واقعية بالنظر إلى تنامي مظاهر العنصرية وكراهة الآخر ليس سياسيا فقط وإنما انتشر ذلك في ملاعب القارة وبإيطاليا خصوصا وبدرجة أقل في جهات أخرى زيادة على التوجيه الجذري، للترسانة القانونية المتعلقة بمحاربة الإرهاب وانعكاساتها الخطيرة على حقوق الإنسان، وفتح مراكز الاعتقال للمهاجرين ورفض تسوية وثائقهم ومنع منح التأشيرة بإدخال عليها مضايقات قاسية جدا، وهناك ممارسات أخرى الكيل بمكيالين وإزدواجية المواقف والانتقالية، لا يمكن هنا الحديث عن «القيم الأوروبية».