عندما كانت منطقة شمال شرق سوريا مسرحا للأعمال المسلحة تعالت أصواتٌ من هنا وهناك محذرة من فرار عناصر من داعش إلى نقاط أخرى يصعب الكشف عنهم، أو العثور عليهم جراء القصف العشوائي الذي طال المعتقلات أو السجون المحصنة من جانب الحراسة، غير أن الأخبار الواردة من عين المكان أشارت إلى هروب شلة من هذا التنظيم الإرهابي إلى الجهات المجاورة والتي كانت بالأمس وكرا لهم.
هكذا ثارت ثائرة الدولة الغربية وعلى رأسها فرنسا التي أبدت تخوفات لا مثيل لها عندما سارعت إلى مطالبة القيادات العسكرية الكردية هناك بالتعجيل في السيطرة على الوضع وعدم ترك الأمور تزداد تعقيدا وحيرة، تفاديا لأي تداعيات أخرى بداخل بلدها وظهر ذلك أكثر وضوحا عند مقتل البغدادي.. فورا أعلن حالة التأهب في وسط الأجهزة الأمنية الفرنسية وأخذ كل الاحتياطات اللازمة.
وسار على هذا المنوال كل من ألمانيا، بريطانيا والولايات المتحدة، لكن ما يلاحظ هو أن كبير العسكريين الأكراد مظلوم طمأن الرئيس ترامب بأن الوضع متحكم فيه وتحت السيطرة فيما يتعلق بـأفراد داعش وعائلاتهم، وهكذا طوي هذا الملف بصفة نهائية وكأن شيئا لم يكن ومباشرة يطلعنا ترامب في تغريدته بـأن أمرا «عظيما» وقع فجرا، ومع الساعات الأولى لطلوع النهار استيقظ العالم على خبر مفاده مصرع البغدادي مرة أخرى سارع ماكرون ثانية إلى تهنئة ترامب على ما أنجزته «قواته الخاصة» في إدلب.. وهكذا تلقى الرئيس الفرنسي ضمانات بتراجع أذى داعش في الوقت الراهن.
وما يستدعي الانتباه تلك الرواية المفصلة التي جاءت على لسان ترامب فيما يخصّ موت البغدادي عندما خرج عن المقاربة السياسية وركّز على خلفية الحادثة على أنها «هوليودية» إلى أن وصف عويل المعني بـ»الكلب المسعور»، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل أن قائد عسكري أمريكي نفى كل هذه الرواية نفيا قاطعا.. فهل ضخّم ترامب مما وقع؟ بعد أن منع الأمريكيون نشر صور الهجوم واكتفوا بنظيرتها الجانبية فقط، نفس الأسلوب الذي كان متبعا في العراق حصار محكم على الصور التي تظهر الأمريكيين في حالة حرجة، في الوقت الذي يعمل إعلامهم على التباهي بالصور الحصرية.
لابد من القول بأن الروس صرّحوا بأنهم لا يملكون أي معلومات عن مقتل البغدادي في الوقت الذي شكرهم ترامب عن المساعدات المقدّمة للأمريكيين.
هذه الخلفية تتطلّب التذكير بها، من أجل إحداث ذلك التواصل في المواقف لضبط الاتجاهات السياسية والعسكرية المتتالية خلال هذه الفترة على ضوء الآثار المترتّبة عن العمليات المسلحة في الشمال الشرقي لسوريا جراء مطالبة تركيا عمق 30 كلم لضمان حدودها.
والتساؤل المحيّر الذي ما فتئ يطرحه المتتبعون أين يتوجّه إرهابيو داعش، بعد أن حطّت الحرب أوزارها؟ هل هناك خيار منطقة الساحل أم جهات أخرى منها بلدان آسيا، لاستراحة محارب أم لإعادة بعث صفوفهم، والاندماج في تنظيمات «ناشطة» كليا أو خلايا نائمة في مناطق القارة السالفة الذكر.
ففي هذا الشأن أكد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن أغلب مسلحي «داعش» توجهوا إلى اندونيسيا، ماليزيا، سنغافورة، الفلبين، وتايلندا، بعد طردهم وملاحقتهم في سوريا، اكتسبوا على إثرها خبرة قتالية سيوظفونها مستقبلا في محاولتهم لأحياء خلافاتهم الجديدة، ووقف شويغو على تفاصيل دقيقة تتعلّق بالعمليات الإرهابية في تلك البلدان مستشهدا بأمثلة حية، وما صدر عن شويغو هو التحذير الصريح لكل أولئك الذين ما زالوا يتساءلون عن وجهة الإرهابيين بأن التهديد يلازم الجميع ولا ينجو منه أحد في حالة عودته، وإن حدّد تلك البلدان بدقة وعددها ٦، فإن هناك وجهة أخرى ألا وهي منطقة الساحل التي فعلا تعد وكرا لهؤلاء بدءا بليبيا كمدخل لكل ذلك الشريط الواسع وما يقع في هذا البلد ومالي وبوركينافاسو، يـؤشر على حضور هذه الجماعات هناك بشكل مكثف خاصة منذ تلقيهم ضربات موجعة جعلتهم يبحثون عن ملاذات آمنة.. تقيهم عمليات التصفية المتواصلة.
وهذا التحرك المفاجئ الناجم عما وقع في شمال شرق سوريا نبّه المجموعة الدولية داعيا إياها إلى التحلي باليقظة والفطنة تجاه ما يقوم به هذا التنظيم وقد عبّر عن ذلك ترامب صراحة عندما اعترف بقدرتهم العالية في إدارة الإعلام الآلي وتكنولوجيات الاتصال، مما يـوكد أن هؤلاء في تواصل فيما بينهم لترتيب صفوفهم لغد آخر.