تتسارع الأحداث في لبنان بشكل حقا مثير للدهشة تارة والاستغراب تارة أخرى لا لشيء سوى أن الفرقاء بصدد جلد الذات والانتقام من بعضهم البعض وتصفية الحسابات القديمة، مستغلين ركوب موجة الحراك الشعبي، في وطن رقعته الجغرافية لا تحتمل هذا التسونامي « من الاحتجاجات العارمة التي فاجآت، عفوا، صدمت الجميع، من كانوا يعتقدون بأن السير فوق الوادي الهادئ هو السلام بعينه، لكننا اليوم أمام واقع آخر يصعب التحكم فيه، بخطاب ما قبل تاريخ ١٧ أكتوبر.
وفعلا إن تجاوزنا الدهشة والاستغراب وشرعنا في التخلص من آثار الصدمة، فإننا ندخل فضاء التساؤلات التي لا تنتهي، منها لماذا نسي البعض أن هناك فرقا شاسعا بين مفاهيم الدولة، السلطة، والحكومة؟ لا يمكن مهما كان الأمر إسقاط الدولة ونعني هنا المؤسسات والمرافق العمومية، والمصالح الخدماتية ذات الصلة الوثيقة بالمواطن.
هذا ما يخشاه الجميع في مثل هذه الحالات، شعارات ترفع وتصريحات تسمع تدعو جميعها إلى الإطاحة بما هو قائم وغير معقول قد تتفهم السلطة كل هذا الغضب الجارف، الصادر من الأعماق والصرخات العميقة لأناس شعروا فعلا بأن الهوّة تزداد عمقا بين القاعدة والقمة. أفرزت تداعيات اجتماعية صعبة المواجهة، مهما حاول الخطاب التقليل أو التخفيف من وطأتها وحدتها..لكن غياب آليات عملية، لامتصاص هذا التباعد ترك كرة الثلج تكبر، وتكبر لتغمر الجميع، في انتظار إذابتها ولا يمكن لأحد إنكار مخلفات انعدام سياسة الحماية الاجتماعية في لبنان وتأثيراتها المباشرة على العائلات حتى مقولة الضريبة تقتل الضريبة، لم تحدث في بلد الأرز ويراد منها أن الإكثار من هذه «العقوبة» على ذوي الدخل المحدود وغيرهم من الفئات الأخرى.. تفقد «دلالاتها»، وهذا فعلا ما وقع طيلة هذه الفترة.
هذه المطالب الاجتماعية لا يمكنها أن تتحوّل إلى معاول هدم للدولة اللبنانية التي شيدت بالدم والدموع منذ لحظة تأسيسها وما مرّت عليه من محن حرب أهلية قضت على الأخضر واليابس والاجتياح الإسرائيلي لطرد المقاومة الفلسطينية والتصدي للعدوان الصهيوني من قبل المقاومة.
هذا البلد له تاريخ نضالي لا يمكن نسيانه امتزجت فيه دماء أحرار وأخيار، وأطهار المقاومين من لبنانيين، فلسطينين وسوريين، وعرب آخرين تطوّعوا إلى جانب إخوانهم وتلقت إسرائيل ومن معها درسا لن يمحي من ذاكرة قادتها العسكريين والجميع ما تزال في ذهنه شخصيات لبنانية مؤثرة آنذاك في المشهد المقاومتي منهم كمال جنبلاط، فضل الله، أبلوا البلاء الحسن خلال تلك المرحلة المضيئة من مسيرة هذا الشعب.
هذا الكلام ليس ديماغوجيا أو حامل للغة الخشب، وإنما نابع من الحرص على عدم سقوط لبنان في مطبات أخرى لابد من الحفاظ على الدولة الوطنية المولودة من رحم كفاح هذا الشعب المناضل، ومهما تكن الانشغالات المادية، فإنها معقولة ومقبولة لها حلول اليوم أو غدا.. بالرغم من الضغوطات الصادرة من هنا وهناك الرافضة ضمنيا منح هذا البلد ما التزم به البعض من إعانات مالية.. لأسباب تراها عادية منها إبعاد حزب الله من الفعل السياسي وعدم تركه يؤثر في القرار وعزله من الوجود في قطاعات الدولة الحساسة، هذا ما يريده هؤلاء إن أراد قادة لبنان عودة المال إلى بنوكهم.
قد تكون البعض من التصريحات الصادرة ناجمة عن لحظة فقدان القدرة على مسايرة الأحداث ..أو مندرجة في إطار رؤية واقعية، أو حسابات آنية أو محاولات إستشرافية غير أن هذا لا يخدم أبدا المسعى القائم على ايجاد الحلول الضرورية وعدم التهرب منها.. وإن قفز البعض على حزب الله وتحميله كل بلاوي البلد، فإن الحريري لجأ في أول الأمر إلى القراءة السياسية، لما يجري ثم صحّح التسديد بناء على ما يرفع له من تقارير بأن المطالب اجتماعية بامتياز، رافضا تكسير التوافق الموجود رغم هشاشة هذا الاتجاه جلب له حزب الله إلى جانبه غداة تمسكه بالحكومة الراهنة، وعدم التخلي عنها في مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة.
والشخصية الأكثر تعقلا وحكمة في كل ما يجري هو ميشال العون الذي يبقى وافيا لتعهداته، ولقيم القسم ومبادئ التعايش والقبول بالآخر لحماية الوطن والمواطن مثلما ورد ذلك في دستور البلد، متحديا كل هذه الأوضاع الحادة إلى غاية ايجاد الحلول الفعّالة المتساوية مع ما ينادي به الحراك الشعبي بعيدا عن الحقد والانتقام.