وسط الانشغال العربي «بالفوضى الخلاقة» التي أحدثتها انتفاضات تغيير الأنظمة قبل ثلاث سنوات، وتراجع الاهتمام بقضية الأمة الأولى، وغياب شرعية دولية تقوم على إحقاق الحقوق وإحلال العدالة، تسعى أمريكا إلى فرض تسوية للقضية الفلسطينية مفصّلة على مقاس إسرائيل، بحيث تحفظ وجودها اللاشرعي وأمنها ومصالحها وحتى يهوديتها وعنصريتها.
منذ الصائفة الماضية، تاريخ استئناف عملية السلام، ووزير الخارجية الأمريكي «جون كيري» يقوم برحلات مكوكية، حاملا في جعبته خطة أصبحت تحمل إسمه، يقول إنها تحوي حلاّ سحريا عادلا وشاملا للقضية الفلسطينية وتلبي الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
فهل فعلا تملك خطة «كيري» حلا عادلا للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، أم أن «إتفاق الإطار» الذي يسعى وزير الخارجية الأمريكي إلى بلوغه قبل انتهاء السقف الزمني المحدد للمفاوضات في أفريل القادم، هو ذرّ للرماد في أعين الفلسطينيين، ومحاولة أخرى لجرّهم إلى حلقة مفرغة من المفاوضات لن تصل بهم إلى شيء، عدا كسب إسرائيل المزيد من الوقت لإغراق المساحة المخصصة للدولة الفلسطينية المنشودة بالمستوطنات، وسرقة أجزاء من فتات ما تبقّى من فلسطين وضمّها عنوة إلى كيانها الصهيوني ووأد حق العودة والسيادة.
خطة مفصلة على مقاس إسرائيل
يعتقد الكثير من المراقبين السياسيين، بأن «اتفاق الإطار» الذي تسعى أمريكا، المنحازة دوما إلى إسرائيل، لفرضه على الفلسطينيين، قد يكون أسوأ من اتفاق أوسلو وسيأتي على ما تبقّى من حقوق ويصفّيها.
وهو يحدّد العناوين العريضة لقضايا الوضع النهائي تمهيدا للتفاوض بشأنها لمدة عامين، قبل الانتقال إلى مرحلة مفاوضات ثنائية خلال خمس سنوات أخرى قابلة للتمديد، أي أنّ الأمر لن يكون محدّدا بسقف زمني وسينتهي إلى رحلة أخرى من التيهان في متاهات ودهاليز لامتناهية تصفي القضية الفلسطينية وتقلتها.
والتشاؤم بفشل خطة «كيري»، واعتبارها مجرّد مؤامرة أخرى لضرب الحقوق الفلسطينية، لا يرجع إلى شكوك في نزاهة الوسيط، فالانحياز الأمريكي لإسرائيل مفروغ منه، وإنما إلى ما تتضمنه هذه الخطة من عروض وبنود مجحفة لطرف على حساب آخر، تجعل منها حبلا غليظا لخنق الحقوق الوطنية الفلسطينية والتخلص منها نهائيا.
الخطة - المؤامرة، تقرّ بقاء جيش الاحتلال الاسرائيلي لسنوات في منطقة الأغوار، ويوصي بإلحاق الكتل الاستيطانية الكبرى التي تقوم على ١٢٪ من أراضي الضفة إلى الدولة اليهودية، وتشدد على بقاء سيطرة إسرائيل على المعابر والحدود والأمن وتستثني القدس المحتلة من التفاوض ومن الحل النهائي…
تطبيق الخطة كما يطرحها «كيري»، سيقود في النهاية إلى إقامة دولة فلسطينية هي بمثابة الغربال الذي لا يجمع ماء؛ أي مجرد كيان بحكم ذاتي معني بالسكان دون السيادة والأمن اللذين سيوكلان لإسرائيل.
اللاجئون... لا حقّ في العودة
طرحت خطة السلام الأمريكية عدة خيارات بشأن حلّ قضية اللاجئين الجوهرية، لكنها، للأسف، لا تتضمن التسوية المنطقية والعادلة والتي تتحدد في حق العودة لمن يريد ذلك.
خيارات «كيري» تعرض على ستة ملايين لاجئ فلسطيني الاستقرار في وطن بديل، أو «التكدّس» في الدولة الفلسطينية المرتقبة أو البقاء حيث يتواجدون في البلدان المستقبِلة، كالأردن ولبنان، ومساعدتها نظير احتضانهم.
كما تشترط خطة «كيري» وخلافا لمبادرات السلام السابقة، على الفلسطينيين، ضرورة الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية، وخطر هذا الشرط أن الإقرار بيهودية إسرائيل يعني إسقاط عودة الفلسطينيين إلى أرضهم التي هجّروا منها غصبا منذ ١٩٤٨، بل وقد تفتح المجال لتهجير مليون مما يطلق عليهم “عرب إسرائيل”، على اعتبار أن إسرائيل اليهودية ستكون لليهود فقط أي دولة احتلال عنصرية.
ضعيفة بدون سند عربي
الفلسطينيون في موقف لا يحسدون عليه، حيث يُضغط عليهم لقبول خطة الاستسلام الجديدة التي تفرض عليهم مزيدا من التنازلات، وهم وحدهم يصارعون وسيطا منحازا واحتلالا غاصبا، أما العرب فمنشغلون عنهم بهمومهم ومشاكلهم التي لا تنتهي.
لكن مهما تكن قوة الخصم وغطرسته، ومهما تكن المساومات، فعلى الشعب الفلسطيني أن يواجه المؤامرة الجديدة بقوة، ولا يفرّط في حقوقه المشروعة.
وقبل ذلك، عليه أن يبادر بتوحيد صفوفه وإنهاء خلافاته، وتفعيل مختلف وسائل المقاومة والنضال، كالذهاب إلى الأمم المتحدة لاستكمال المسعى الأممي بالانضمام إلى الوكالات والمنظمات الدولية.
صحيح أن الرياح اليوم تجري بما تشتهيه سفن إسرائيل، والشرعية الدولية نائمة، وصحيح أن الخصم المسنود بأمريكا قوي، لكن القضية الفلسطينية أقوى بعدالتها وبتمسك شعبها بها، لهذا لا يجب مطلقا مقايضتها بمجرد أوهام.