كانت انتفاضة البوعزيزي والتونسيين من بعده مدوية عبرت الفضاء العربي ضد واقع مزر وأحوال متردية وممارسات أقل ما يقال عنها تسلطية تحتقر الشعب، فكانت الانتفاضة بحثا عن بدائل وأوضاع أحسن غير التي ألفوها وملوها يشاركون في صناعتها ويكونوا راضين عنها.
كانت الانطلاقة من تونس، غير أن التمنيات اصطدمت بالإمكانات والواقع المتردي الذي لن يتغير دون شك بين عشية وضحاها نحو الأحسن.
وقد انطلقت الانتفاضة التونسية من المدن ومختلف الجهات رافعة يافطة العزة والكرامة والحرية والمواطنة، فكانت سلمية المنطق والممارسة والأهداف، أين تسارعت الأحداث في أيام معدودة سقط فيها ما يقارب ٤٠٠ شخص وفر رئيس البلاد خارج الوطن ولم يستطع الصمود.
كانت انتفاضة مميزة وإن كان البعض دفع الثمن باهظا في أهله وماله ونفسه.
غير أن القطيعة مع النظام السابق لم تنقطع على مستوى رجاله ومنظومته، حيث واصل البعض قيادة البلاد بمبرر عدم ترك شغور في البلاد وقبل الجميع ذلك من أجل عدم سقوط الدولة وحدوث الفوضى وحدث أن تواصلت المنظومة السياسية رغم سقوط الرئيس، حيث وقع لقاء غريب بين فلول الأمس وما يسمى بثوار اليوم، أي بين منفذي العهد القديم والطامحين لعهد جديد تسوده العدالة والحرية ودولة المؤسسات، فأول رئيس بعد الانتفاضة الرئيس السابق لبرلمان العهد القديم، ورئيس حكومته هو رئيس ما قبل الانتفاضة أو الثورة، كما يحلو للبعض تسميتها، ولعل هذا التواصل للعهد الجديد تحت مسمى خدمة الثورة جعل الأخيرة تراوح مكانها.
إن التواصل والاستمرارية وعدم القطيعة مع الأنظمة، تمثل الركن الأساسي لفهم ظاهرة الحراك العربي على العموم وتفسر التخبط والفشل الذي ضرب بعضها أو في طريقه إليها.
إن غياب الحسم في الموقف من المنظومة القديمة نتيجة قراءة سياسية مغلوطة غلبت جانب القبول بالأمر الواقع والمراهنة على استجلاب الرؤوس القديمة تحت مظلة أحزاب جديدة جعل الانتفاضة أو الثورة تتواصل بمنظومة قديمة يشارك فيها الحرس القديم والجديد.
وكان للمسار الثوري بوابات استرجاع وعودة، فكانت الانتخابات التأسيسية لصيانة الدستور عنوانا بارزا ملأ الصورة وأعاد الثقة لأصحابها بأن الثورة تتمكن وأهلها يحكمون البلد!
لقد راهن الجميع على ثورية الحاكم الجديد جمعت إسلاميي حركة النهضة وعلمانيي حزبي المؤتمر والتكتل.
والمعروف أن الاسلاميين دفعوا طيلة ٤٠ سنة ثمنا باهظا من المنفى والسجون بين أموات وجرحى ومعذبين في الأرض وجاؤوا بهذا الزاد المعنوي لشعب ينتظر تغييرا لوضع قديم بائس نال منه الفقر والاستبداد والفساد، غير أن الصدمة كانت كبيرة للجميع، حيث اختارت السلطة المنتخبة طريقا مختلفا وقراءة أخرى، فكانت حكومة الجبالي أنموذجا لعدم القطيعة مع الماضي ليتواصل المسار مع الحكومة الثانية.
إن الآمال التي تعلق بها الكثيرون من رموز الثورة المضادة للربيع العربي كله، أصبحت تركز بصورة ملحوظة على إمكانية النجاح في مصر ومن ثم تتساقط الإنجازات الربيعية في البلدان الأخرى تلقائيا، غير أن عمومية القضية تبقى أقوى بكثير من خصوصية الحالة.
فالثورة المضادة للربيع المصري عبّرت عن رغبتها القوية في إنهاء ثلاث سنوات من محاولات إسقاط الدولة، بحسب تعبير وزير الدفاع المصري “السيسي”، والحفاظ على الدولة.
فقد خسرت مصر بسبب ثورة ٢٥ يناير ما لا يمكن استعادته، وقد استطاعت الثورة المضادة تحقيق الكثير على أرض الواقع، حيث عزلت الرئيس مرسي وأنشأت دستورا جديدا وقانونا للتظاهر وقانون الارهاب وإعلان السيسي مرشحا للجمهورية، لكن مع كل هذا فلا يمكن إلغاء ثورة ٢٥ يناير، لأن مناصريها كثيرون ولا أدلّ على ذلك الاعتصامات التي لم تنته منذ سنوات وخاصة أيام الجمعة.
إنه لمن المؤسف أن يتوارى الربيع العربي تدريجيا عن أنظار صانعيه، إما بدبابة تنطلق من ثكنتها وفق طريق مرسوم لها، أو بقفازات من حرير تلبس لبوس الثورة وتبقى وحشيتها حتى يظهر ذئب الأعماق في صورة خروف وديع.
إنها التجرية المصرية والتونسية في أجلى كياناتها حيث اختلفت المسارات والهدف واحد وهو العودة إلى المربع الأول، إما بتكاليف محدودة أو باهظة يفيض دمها على الأطراف.
فهل تذهب دماء المنتفضين سدى وتنتهي الأحلام؟ وهل ولدت الثورات العربية ميتة؟
لكن الثابت، أن الشعوب العربية قد تاقت إلى الحرية وملت الاستخفاف بحالها وأن دماءها ليست رخيصة حتى تراق دون حساب.