تمتلك إفريقيا مقومات من شأنها أن ترفع مكانة القارة اقتصاديا لتكون مصدر الغذاء العالمي بامتياز. الرهان رغم صعوبته قابل للتحقيق، بالنظر إلى الأراضي الخصبة التي تحتاج إلى استثمارها بعقلانية بإقامة مشاريع زراعية وصناعية تلبي حاجيات سكان القارة السمراء. كما تمتلك افريقيا كل المقومات لتكون المحرك الاقتصادي المهيمن على الكوكب لعقود وفقا لعلماء الديمغرافيا والاقتصاد وخبراء الصناعة والزراعة. وهي مقومات سترفع من شأن القارة التي تمّ تجاهلها لقرون طويلة. كل التفاصيل في هذا الحوار الذي أجرته «الشعب» مع الدكتور مصطفى بخوش، أستاذ العلاقات الدولية ورئيس اللجنة العلمية لقسم العلوم السياسية – جامعة بسكرة - سابقا.
^^ الشعب - أين موقع افريقيا في ظل الصراع الدولي الراهن. وماذا عن حوار الشمال والجنوب؟
د. مصطفى بخوش - بداية أود أن أشير إلى أنه بعد نهاية الحرب الباردة وتراجع التهديد الشيوعي باختفاء الاتحاد السوفياتي وتراجع الصراع الأيديولوجي، نشأت في الفكر الغربي نظريات أخرى وفلسفة تحدد أخطارا أخرى غير “الخطر الأحمر”. بل ترى في الجنوب مصدر خطر، بالنظر إلى الاضطرابات والنزاعات التي تعرفها المعمورة، غالبيتها في الدول النامية.
والواقع أن دراسة التطور الاقتصادي في العـالم خـلال العشريـة الأخيـرة، يبـرز جمـلة من الحقـائـق نجملها في تزايد تمـركـز الثـروة العـالميـة فـي عـدد محدود من الدول، تزايد اتساع الهـوة بيـن بلدان الشمـال وبلـدان الجنـوب، تقسيـم العمـل الدولـي القـائم على التخصـص جعـل من منطقـة الجنـوب مجـرد ممـون بالمواد الأولية الطاقوية وسـوق استهـلاكية واسعـة. والملاحـظ أن المعطى الاقتصـادي يدفـع بشكـل قـوي نـحو تشـكل ثنـائـية شمـال/ جنوب، تتمـيز عـن تـلك التـي عـرفتهـا مـرحلـة السبعينـيات بـأنهـا تتجـاوز المستوى الاقتصـادي لتنتقل إلـى المستوى السياسي والاجتمـاعـي وهـو الأمر الذي يفرض بالمقابل إعادة بعث فكرة التعاون جنوب/جنوب، لكن وفق منظور اقتصادي جديد يتجاوز المنظور التقليدي الذي كان قائما على أبعاد إيديولوجية لا تراعي مصالح أطرافه. غير أن بناء التعاون جنوب/جنوب يستلزم تجاوز مجموعة من العقبات أبرزها محورية الشمال ومركزيته في العلاقات جنوب/جنوب، عجز المبادلات البينية بين دول الجنوب، عدم تنوع وتشابه اقتصادات دول الجنوب التي تقوم في معظمها على تصدير الموارد الأولية، غياب الإرادة السياسية عند النخب الحاكمة المستمرة في ارتباطاتها مع الدول الاستعمارية.
^^ أين هي افريقيا في هذا “الحراك” والتغيير، وهل الهدف قابل للتحقيق؟
لن يتحقق ذلك إلا عبر إعادة نظر كلية في الاتحاد الافريقي ومراجعة الأسس التي قام عليها أولا وتشجيع الفواعل من دون الدول على الانخراط في علاقات تساعد على نسج شبكات جديدة تتيح فرص تعاون حقيقية تراعي واقع كل دولة من جهة، وتأخذ في الحسبان الفرص التي تتيحها لها البيئة ثانيا.
إن منطق الشبكات الذي يقوم على فكرة أن نقاط القوة مصدرها ليس في نقاط الانطلاق ولكن في نقاط التقاطع، يتيح التحول من التفكير الدولاتي المصلحي الضيّق نحو تفكير تكاملي رحب ينظر للتعاون كآلية للاستفادة المتبادلة وليس آلية لمنح الهبات. وهو ما يسمح ببعث الأمل في رؤية تعاون حقيقي قائم على المنفعة المتبادلة وليس على الخطابات الإيديولوجية.
^^ انقلابات، انتخاب، محاولات توريث أشكال متعددة للسلطة أشياء تلصق في الغالب بإفريقيا، برأيك إلى أين تتجه الأوضاع في القارة السمراء وخاصة بالساحل؟
الملاحظ اليوم أن الاهتمام الدولي بالقارة السمراء بصفة عامة ومنطقة الساحل الإفريقي بصفة خاصة في ازدياد مستمر، خصوصا بعد نهاية الحرب الباردة وتراجع دور الاعتبارات الأيديولوجية لصالح العوامل الاقتصادية في رسم سياسات الدول والمجموعات الفاعلة الدولية. إذ أصبحت إفريقيا تشكل أحد المجالات الجيوسياسية التي تثير اهتمام الفواعل الدولية والتطلعات البحثية لمراكز الدراسات والبحوث عبر العالم على خلاف ما كانت عليه في ظل الحرب الباردة.
كانت الساحل منطقة هامشية استراتيجيا واقتصاديا وسياسيا. تحولت اليوم إلى مركز اهتمام الفاعلين الدوليين، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل عن أسباب هذا الاهتمام المتصاعد بإفريقيا وبمنطقة الساحل بصورة خاصة. هل هذا راجع لطبيعة التهديدات الجديدة (الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة بشكل خاص) التي تطرحها المنطقة على النظام الدولي؟ أم أنه يعود أساسا (جيو اقتصادية الموارد في المنطقة) مرتبطة بطبيعة التنافس الدولي اليوم؟ أم لكلاهما معا؟
^^ أسئلة حقيقة تطرح، أين الحقيقة من هذا التساؤل الكبير؟
الحقيقة أن المؤشرات المتاحة تجمع على أن الفضاء الإفريقي تحول إلى فضاء جيوسياسي وجيو اقتصادي مهم يدخل ضمن اهتمامات وحسابات القوى الإقليمية والدولية (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الصين، اليابان...) التي تبني سياساتها الخارجية وفق تفاعل ثلاثة عوامل أساسية هي الحقائق الجغرافية (الموقع، المساحة، الخصائص، الطبوغرافيا، عدد السكان)، الحقائق الهوياتية الشخصية الوطنية، التركيبة الإثنية والعرقية، وأخرى جيو اقتصادية متمثلة في الموارد الطبيعية والموارد الأولية.
ورغم أن الأرقام والتقارير تؤكد أن افريقيا هي واحدة من أكثر المناطق بؤسا في العالم. وهي تواجه تحديات الفقر المدقع، وآثار تغير المناخ والأزمات الغذائية المتكررة، والنمو السكاني السريع، والحكم الهش والفساد والتوترات الداخلية، وخطر التطرف، وشبكات الجريمة المنظمة والتهديدات الأمنية المرتبطة بالإرهاب. ولكن ومع ذلك، تعد منطقة غنية بمصادر إمدادات الطاقة والمعادن.
وإذا كانت إفريقيا في الماضي القريب لا تثير أي اهتمام دولي، فإنها اليوم وبسبب بروز عامل جديد في المنطقة غيّر من قيمتها الاقتصادية وحتى الاستراتيجية تمثل أساسا في اكتشاف مؤشرات نفطية هامة أصبحت واقعا ملموسا في خليج غينيا.
وانطلاقا من هذا، وفي تقديري الخاص، لا تشكل التهديدات العسكرية والأمنية والاضطرابات السياسية في إفريقيا السبب الوحيد الذي يفسر تزايد الاهتمام الدولي بها، وإنما أضحى السبب الحقيقي هو التنافس على تأمين الإمدادات الطاقوية التي تمثل شريان المجتمعات الصناعية وما بعد الصناعية، لذلك اعتبر نائب المستشار الأمريكي السابق المكلف بإفريقيا “والتر كانستاين”، أن بترول القارة السمراء تحول إلى مصلحة استراتيجية قومية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ تشير أرقام ندوة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الكنوسيد”، أن احتياطات القارة السمراء من النفط تقدر بحوالي 80 مليار برميل؛ بمعنى حوالي 8 من المائة من الاحتياطي العالمي، وبحسب National Intelligence Council الأمريكي، فإن الولايات المتحدة ستستورد 25% من احتياجاتها النفطية من إفريقيا جنوب الصحراء في حدود سنة 2015، مقابل 16% خلال العشرية الماضية. والملاحظ اليوم، أن إفريقيا جنوب الصحراء تنتج الآن حوالي 4 ملايين برميل في اليوم وهو ما يساوي إنتاج إيران وفنزويلا والمكسيك مجتمعة.
لكن ورغم كل هذا يبقى كل الكلام السابق غير ذي معنى إذا لم تسارع دول القارة السمراء إلى إعادة ترتيب بيتها الداخلي بالتوجه أكثر نحو المؤسسية وبناء ثقافة المواطنة واعتماد آليات الحكم الراشد. فدول القارة تحتاج اليوم إلى حل شامل لمعالجة عدم الاستقرار السياسي وغياب التنمية؛ حل يقوم على مقاربة متكاملة تأخذ بعين الاعتبار تحديات الحكم وسيادة القانون وتقوم كذلك على مفهوم الأمن الإنساني الذي يحرر الفرد من الخوف ومن الحاجة.
^^ في عصر التحولات الاجتماعية أين تسير الأمور بالساحل الإفريقي؟
أشير أولا إلى أن الأوضاع في منطقة الساحل ليست وليدة اللحظة، فمنطقة الساحل الإفريقي واجهت أزمات بيئية وتنموية وأمنية طويلة ومترابطة خلقت ما يسميه الباحثون “مزيجا مضطربا من التخلف وانعدام الأمن” والذي لعب دورا مهمّا في تحويل معظم دول منطقة الساحل إلى دول هشّة وعاجزة عن إدارة التناقضات المتنوعة في المنطقة، بسبب التركيبة الاجتماعية المتعددة إثنيا وغياب قيم المواطنة، الأمر الذي سمح ببروز فواعل عبر وطنية غيرت قيمتها الاستراتيجية دوليا، بحيث تحولت إلى منطقة احتضان وعبور للإرهاب الدولي والجريمة المنظمة وللهجرة السرية وتجارة البشر.
الحديث عن الأوضاع في منطقة الساحل يفرض علينا التوقف عند جملة من النقاط، هي أن دول الساحل ورثت حدودا سياسية لم تراع الحدود الأنثروبولوجية للمجتمعات المحلية في عمليات البناء السياسي للدول، خاصة مع وجود أشكال للهيمنة الإثنية على الحياة السياسية في كثير من دول الساحل. ففي منطقة الساحل، كما في بقية القارة الأفريقية، رسمت القوى الاستعمارية الحدود الإقليمية للدول الناشئة وفقا لمنطق مصالحها وليس وفقا لمعايير تماسك المجموعات الإثنية المعنية فيها، وهو الأمر الذي أنتج دولا غير متجانسة إثنيا. وفي ظل غياب ثقافة المواطنة والعدالة التوزيعية، استمر ولاء الفرد في هذه الدول لقبيلته وليس لدولته، وبالتالي استمرت التجاذبات الإثنية في الهيمنة على الحياة العامة وحتى على مؤسسات الدولة. وأنا هنا لست بصدد البحث عن تبرير لهذا الواقع تاريخيا، بل العكس تماما أردت أن أقف عند هذا المعطى حتى يؤخذ بعين الاعتبار في أي مبادرة حلّ في المنطقة. لأن هذا العامل كاشف لكنه غير كافٍ لتفسير الواقع. فضعف الأداء الاقتصادي لدول الساحل أنتج أكثر من مليوني ضحية لأزمات المجاعة في الثلاثين سنة الماضية.
^^ الوضعية أفرزت أخطارا وتهديدات، حيث اتّخذت الجماعات الإرهابية من الفقر فجوة للتفريخ والانتشار؟
هذه المسألة موجودة في المعادلة التحليلية. انتشار الفقر المدقع ولد أزمات، إذ أن أكثر من 80% من سكان تشاد، مثلا، يعيشون تحت مستوى واحد دولار أمريكي في اليوم، وأكثر من 60% من سكان مالي والنيجر في نفس الحالة المعيشية. وهذا ما يشجع حركيات الهجرة السرية والإحباط الاجتماعي الذي يدفع باتجاه الإجرام والعنف. حيث قدر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية عام 2012، أن أكثر من 16 مليون شخص معرضون لخطر انعدام الأمن الغذائي الحاد في منطقة الساحل، بينهم مليون طفل كانوا عرضة لخطر الموت بسبب سوء التغذية الحاد. لذلك يعد مشكل التخلف واحدا من التحديات الأساسية التي تواجه البلدان في منطقة الساحل. إذ تحتل كل دول الساحل مراتب متأخرة في الربع الأخير من مؤشر التنمية البشرية الذي يصدره سنويا برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، هشاشة وميوعة الحدود بسبب اتساع الرقعة الجغرافية وضعف الكثافة السكانية التي هي أقل من شخص ينل كل كيلومتر. لذلك أدى توافر مساحات واسعة غير خاضعة وغير مراقبة من الحكومات وعدم قدرة هذه الأخيرة على ضبط حدودها الشاسعة إلى تسهيل عمل شبكات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية واعتبر ذلك أحد أهم العوامل الرئيسية التي أدت لنشوء التهديدات الأمنية الجديدة في المنطقة مثل الجريمة المنظمة عبر الوطنية والإرهاب. بالإضافة إلى العامل الخارجي مهم كذلك لشرح الواقع الجديد في منطقة الساحل، فالاهتمام المتزايد للقوى الاقتصادية والسياسية بهذه المنطقة هو نتاج وجود مؤشرات إيجابية جدا على مستوى الاستكشافات النفطية والغازية في دول المنطقة وهذا ما خلق تنافسا محتدما بين فرنسا، الصين والولايات المتحدة وبدرجة أقل اليابان.
وعموما يمكن ملاحظة أن الصعوبات التي تواجه منطقة الساحل تشكل مجموعة من العوامل المعقدة والمتشابكة، يمكن إجمالها في ثلاثة عوامل رئيسية تتحكم فيها هي:
أولا، التخلف المزمن المرتبط بمجموعة متداخلة ومركبة من العوامل، يأتي على رأسها التركيبة السكانية المتعددة إثنيا، والمتغيرات البيئة الصعبة، وضعف مؤسسات الحكم وهشاشتها.
ثانيا، الأزمات الإنسانية الدورية، مثل تلك التي تتعلق بانعدام الأمن الغذائي الحالية الناتجة عن الجفاف والتصحر.
ثالثا، المخاوف السياسية والأمنية الكامنة، مثل حركات التمرد والانقلابات والإرهاب والجريمة المنظمة.
وقد أدى تداخل كل هذه العوامل إلى زيادة الصراعات على الموارد التي هي في الأصل قليلة ونادرة، وإلى إثارة النزاعات الإثنية في المنطقة. وأعتقد أن التركيز فقط على الجماعات المسلحة في المنطقة، كما هو جار اليوم، يخفي التحديات الكبيرة التي تطرحها باقي التهديدات الأخرى، فسهولة انتشار وعمل شبكات الجريمة المنظمة وتجار المخدرات والسلاح والهجرة السرية في المنطقة، خلق تحالفات جديدة بينها وبين الجماعات المسلحة، حيث شكلت الأموال الناتجة عن هذه الممارسات مصدر تمويل المتمردين والإرهابيين على حد سواء. لذلك، أعتقد كذلك أنه في ظل هذا التنوع الإثني، وفي ظل انتشار الفساد السياسي وضعف الأداء المؤسساتي في هذه الدول، يستحيل بناء آليات الوقاية من النزاعات الداخلية ذات فعالية ومصداقية. مما يجعل من تدخل طرف أجنبي ثالث أمرا حتميا وضروريا. وهنا يفترض أن ننتبه لهذا المعطى، حيث تتوجه قوى إقليمية ودولية نحو إعادة صياغة استراتيجيتها تجاه المنطقة وفقا لمفهوم جديد للتهديدات، يقوم على اعتبار أن فشل حكومات دول منطقة الساحل وعجزها والفقر البنيوي المتجذّر فيها تشكل حركيات عابرة للحدود تعزز بعضها بعضا، وتهدد بالانتشار إلى شمال إفريقيا وعبرها إلى جنوب أوروبا. وهو ما يجعلنا في مرمى هذه الحركيات.
^^ بعيدا عن الساحل، تعيش دولة جنوب السودان توترا ونزوحا غير مسبوق والتقارير تشير إلى نقص حاد في الغذاء؟
بداية يجب أن نفهم أنه دولة جنوب السودان هي كيان جديد قيد التشكل، يعاني غياب العناصر اللازمة لتكوين الدولة. فجنوب السودان يعاني من هيمنة منطق الولاء القبلي والعشائري في توزيع المناصب والوظائف والثروة والقوة. وهو ولاء يتفوق الولاء للدولة، لذلك مايزال الشك والتوجس متبادل بين مختلف مكونات المجتمع في جنوب السودان وهو الذي يحكم العلاقات بينها ويديرها وينمي حركيات زعزعة الاستقرار في المنطقة. وأتصور أنه لا يمكن فهم الوضع القائم في جنوب السودان اليوم إلا بالرجوع إلى ملابسات استقلال جنوب السودان بعد حرب أهلية امتدت طويلا في الزمن بين الحكومة السودانية من جهة، والحركة الشعبية لتحرير السودان (الجيش الشعبي لتحرير السودان) من جهة ثانية، والتي سمحت بتوحيد الجبهتين كلّ في مواجهة الآخر. ففي ظل عدو مشترك تتراجع الخلافات لصالح العمل المشترك لمواجهته، غير أنه بمجرد نهاية الحرب واستقلال دولة جنوب السودان، طفت الخلافات من جديد محدثة شروخا كبيرة بين كل مكونات المجتمع السوداني في جنوبه كما في شماله (مسألة الهوية ببعدها الإثني والديني). وأعتقد أن المحاولة الانقلابية الأخيرة التي استهدفت الرئيس سلفاكير ما هي إلا استمرار للفشل الدولاتي الذي تعاني منه دولة جنوب السودان من البداية بسبب استمرار التوتر بين الجنوب والشمال من جهة، وتصاعد الصراعات الإثنية والعرقية من جهة ثانية. كما تشكل هذه المحاولة الانقلابية في نفس الوقت، تحولا يهدد استمرار وبقاء الدولة بالشكل الحالي، لأن القتال الدائر الآن يزيد من التوترات العرقية التي تحفز عوامل التفتيت.
^^ أين تدرج المحاولة الانقلابية بعد كل هذا؟
أعتقد أن المحاولة الانقلابية الأخيرة التي قادها النائب السابق لرئيس جنوب السودان “رياك مشار” لا تكشف إلا الجزء الطافي من جبل جليد تناقضات ومشاكل تراكمت خلال فترة الحرب الأهلية واستمرت اليوم. فيكفي أن أشير، مثلا، إلى غياب المؤسسة، فمازالت “القبيلة” هي المؤسسة الوحيدة اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا التي يلجأ إليها المواطن، الأمر الذي انعكس على غياب قيم المواطنة غيابا شبه كامل للبنية التحتية. فدولة جنوب السودان تفتقر في غالبية أقاليمها إلى محطات الكهرباء ومحطات تطهير المياه ومعالجتها والمدارس والجامعات والمستشفيات والوحدات الصحية الصغيرة، تحول النفط السوداني الجنوبي من أداة لتحقيق الإقلاع الاقتصادي إلى أداة للصراع على السلطة صارت تأخذ بعدا قبليا خطيرا، تزايد واستمرار حدة العنف بين مختلف الإثنيات، الكوارث الطبيعية المتكررة، الاحتياجات الإنسانية الضخمة.
لذلك أتصور أن ما يعانيه جنوب السودان، اليوم، هو محصلة طبيعية لمسار تشكل الدولة الجديدة التي تُركت لتواجه جبالاً من المشاكل المستعصية لوحدها، فمثلا بناء اقتصاد يستجيب لحاجات المواطنين يشكل تحديا حقيقيا لحكومة الجنوب، بسبب شروط المانحين الدوليين واستحقاقاتهم (مبدأ المشروطية) وبسبب غياب الأمن والاستقرار، الذي يشكل عامل طرد للاستثمارات الأجنبية (رأس المال جبان). بل أكثر من ذلك، وكما توضحه جميع المؤشرات، فإن جنوب السودان مقبل على مرحلة صعبة جدا قد تفرز سيناريوهات تتراوح بين الفوضى والحرب الأهلية، بسبب غياب أدوات الضبط الاجتماعي ووجود فواعل من غير الدولة بإمكانها أن تمارس الجبر والإكراه لتنافس الدولة في هذا المجال. وبالتالي أتوقع أن تستمر أزمة الغذاء على المدى المنظور من دون حل.