تعدّ منطقة الساحل والصحراء نقطة تلاق بين الشعوب والحضارات والثقافات وكانت لعقود واحة تواصل وجسر عبور وربط بين شمال القارة الإفريقية ووسطها وجنوبها. لكنها وبفعل عوامل متداخلة، أصبحت ساحة صراعات وتهديدات ومصدر قلق وخوف.
يعرف الساحل بأنه منطقة شبه «قاحلة» طابع بيئتها متجانس يمتد من الصحراء الكبرى شمالا إلى المنطقة الأكثر خصوبة جنوبا ويغطي ١٢ بلدا إفريقيا.
أما الصحراء الكبرى فتحتل الجزء الأكبر من شمال إفريقيا وهي من أكبر الصحاري حرارة في العالم وتشمل ١١ دولة.
وتعتبر المنطقة محورية في العلاقات بين إفريقيا الاستوائية وإفريقيا الشمالية وبين إفريقيا والمشرق العربي وحوض البحر الأبيض المتوسط.
وهناك عوامل عديدة بهذه المنطقة العازلة تؤدي إلى الهشاشة وعدم الاستقرار، أهمها أنها مساحة ممتدة لا تكاد تفصل بينها حدود طبيعية تضاريسية، بل هي حدود هندسية عشوائية، في غالبيتها موروثة عن الفترة الاستعمارية، شاسعة وصعبة.
يتزايد الصراع فيها على الموارد الطبيعية من غاز وبترول ومعادن مختلفة مما جعلها منطقة حيوية بالنسبة لأمن واستقرار جميع المناطق المحيطة بها، خصوصا الشرق الأوسط والفضاء المتوسطي، وسيكون مصير أي استراتيجية لا تأخذ بعين الاعتبار هذه العوامل الفشل المؤكد.
التحديات وتشابكاتها
تتسم التحديات بالتداخل والتعقيد، واستعراض أهمها وأخطرها يفيد في تلمّس موجهات لأفضل السبل للتعامل معها.
١ ـ البروز القوي للخصوصيات العرقية والثقافية: حيث يتميز فضاء الساحل والصحراء بتعدد عرقي وثقافي كبير. وكثيرا ما تسيطر عرقيات محددة على الثروة والسلطة ويسلط على غيرها التهميش والحرمان. ومع تعقد الظروف الاقتصادية وتزايد الوعي، زاد الإحساس بالإقصاء السياسي والثقافي والغبن الاجتماعي والظلم الاقتصادي.
وقد عرفت أغلب دول المنطقة مشكلات داخلية كثيرة، صراعات وحروبا ونزاعات عرقية تتبنى في أحيان كثيرة أطروحات انفصالية أخذت شكل انقلابات أو تمرد عسكري وهو ما سبب ضررا كبيرا للأمن والاستقرار في تلك الدول وأضعف الاندماج الوطني، لصالح المنطقة أو القبيلة، وانعكس سلبا على البنيات الاجتماعية والنشاط الاقتصادي.
مثال ذلك نجده في دارفور وغربي جمهورية السودان، حيث تعيش قرابة ١٩٥ قبيلة تقسّم إجمالا إلى عرب وزرقة وكانت العلاقة غير متكافئة بين الهامش والمركز، على حد تعبير سمير أمين، وتضافر عوامل أخرى سبب انفجار نزاعات وآلاما وإزهاق أرواح!!
وفي دولتي مالي والنيجر، دفعت العوامل ذاتها الطوارق إلى حمل السلاح مرات عديدة طيلة عقود من الزمن في وجه حكوماتهم المركزية، آخرها كان في جانفي ٢٠١٢ عندما طلبت الحركة الوطنية لتحرير أزواد بانفصال شمال مالي عن جنوبه، وشنّت حربا على الدولة المركزية في بماكو، ورغم وجود أيادٍ لقوى إقليمية ودولية ذات مصالح في منطقة غنية بالموارد الأولية، فإن توالي حالات التمرد دليل على وجود مشاكل داخلية لم يعثر لها على حلول.
٢ ـ التهديدات الأمنية المتعددة: كانت منطقة الساحل والصحراء عبر التاريخ منطقة عبور للقوافل التجارية في مختلف الاتجاهات وهو ما استمر إلى اليوم.
وقد كان للصعوبات الاقتصادية التي تعيشها المنطقة، إضافة إلى الاضطرابات السياسية المتتالية والقصور الواضح وعجز عدد من دولها في حماية حدودها، أن أنعش الاتجار غير المشروع في المخدرات والأسلحة والبشر وفاقم من خطورة الظاهرة وأهم التهديدات الأمنية بالمنطقة:
أ ـ توسع أنشطة التهريب والجريمة المنظمة، وهذا راجع لعدة عوامل أهمها: ندرة الأنشطة البديلة التي تحقق لسكان المنطقة أرباحا كافية وثراء سريعا مماثلا لما تحققه عمليات التهريب. تنامي الترابط بين جماعات التهريب ومسؤولين في بعض الدول جعل هؤلاء يجنون أرباحا طائلة مقابل التعاون مع تلك الجماعات والتستر عليها.
انتشار أسلحة النظام الليبي السابق في كل المنطقة بعد إسقاط حكمه، ومن أخطر الأنشطة التي تطورت بسرعة حتى أضحت الأكثر ربحا في منطقة (الساحل والصحراء)، تجارة الكوكايين.
ب ـ انتشار الأسلحة المتطورة والاتجار فيها، خاصة بعد سقوط نظام العقيد القذافي، حيث انتشرت ترسانة أسلحة متطورة ومتنوعة، شكلت مصدرا لتسلح الجماعات المرتبطة بالقاعدة وجماعات الجريمة المنظمة، حيث تقدر القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) أن عدد الصواريخ أرض - جو سوفياتية الصنع قد يرتفع إلى عشرين ألفا، بينما أعلن حلف شمال الأطلسي عن اختفاء قرابة عشرة آلاف صاروخ أرض - جو، كما أفادت التقارير بوجود تداول واسع للعديد من الأسلحة الأخرى.
وهكذا أصبحت المنطقة مرتعا لسماسرة بيع الأسلحة المحليين الدوليين تدر عليهم موارد مالية مهمة.
ج ـ أنشطة القاعدة والجماعات التابعة لها، إذ تشكل الجماعات الارهابية أحد التهديدات الأمنية في المنطقة. فالموقع الجغرافي والوضع السياسي والأمني المتوترين تعتبر بيئة مناسبة لها.
وهناك عامل مهم آخر وهو اختطاف مواطنين والمطالبة بفدية مقابل إطلاق سراحهم، أو مقابل إطلاق سراح مسجوني الجماعات بسجون الأنظمة، وتقدر الأموال التي جناها الخاطفون والوسطاء من عمليات الخطف في المنطقة بنحو ستين مليون دولار، ساعدت في تقوية تلك التنظيمات.
د ـ الهجرة السرية: وهي إحدى المشاكل الأخرى التي تشكل تحديا أمنيا وإنسانيا في المنطقة، حيث تهرّب شبكات ممتدة الجذور أعدادا كبيرة من المهاجرين الذين يغادرون بلدانهم لأسباب عديدة، اجتماعية، اقتصادية وسياسية، وتدخلهم إلى بلدان غربية بصورة غير شرعية بما يشكل ذلك من خطر على المهاجرين أنفسهم، وتقدر الأرباح المحققة من هذا النشاط بنحو ٣٫٥ مليار دولار سنويا تحصدها شبكات التهريب.
٣ ـ سوء الحكامة السياسية والاقتصادية: لا يمكن فهم تطورات منطقة الساحل والصحراء دون استحضار عجزها عن بناء دول ديمقراطية حديثة وإقرار حكامة سياسية واقتصادية تخدم الوطن والمواطن.
ويعتبر الباحثون أنه من بين الأسباب الرئيسية لانتشار جماعات الجريمة المنظمة بمختلف أنواعها وسبب انتشار الفساد وسيطرة اللوبيات، هو اختلالات الحكامة السياسية والاقتصادية، حيث تصنّف الأغلبية الساحقة من سكان دول المنطقة ضمن الأكثر معاناة في العالم، وقد بلغ تهريب رؤوس الأموال من ٣٠ دولة إفريقية على مدار ٢٠ عاما، ١٨٧ مليار دولار وهو ما يفوق مديونياتها مجتمعة.
إن عجز هذه الدول عن محاربة الجريمة وتلبية حاجيات مواطنيها وفشل أنظمة حكمها، أجج الصراعات الداخلية وشجع على كثرة الانقلابات.
٤ ـ تنامي المشكلات الاجتماعية: يعيش سكان المنطقة أوضاعا اجتماعية سيئة بسبب تضافر العوامل الأمنية وسوء السياسات التدبيرية، تضاف إليها عوامل بيئية مثل الجفاف والفيضانات.
وبخصوص التنمية البشرية فإن معدلها بالمنطقة من بين أدنى المعدلات عالميا، حيث يعيش أكثر من ١١ مليونا من السكان حالة انعدام الأمن الغذائي. وبحسب منظمة الأغذية والزراعة (فاو)، فإن معدلات سوء التغذية زادت بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠١٠ بنحو ١٠٪ في مجموع بلدان المنطقة وزادت بـ١٥٪ في تشاد وموريتانيا والنيجر.