واشنطن تقدّم مصالحها على حساب المبادئ والعقيدة المشتركة مع حلفائها
رغم ما يحيطها من غموض فقد حاول الدكتور بشير جيدور أستاذ العلوم السياسية بجامعة غرداية في حواره مع «الشعب» تسليط الضوء على السياسة الخارجية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي تثير الكثير من الانتقادات وعلامات الاستفهام عن دوافعها ومقاصدها، سواء تعلّق الأمر بإجهازه على العديد من الاتفاقيات التي توصّل إليها أسلافه بشقّ الأنفس، أو بضربه لأسس العلاقة مع الحليف الاستراتيجي الاتحاد الأوروبي.
الدكتور جيدور خلُص إلى أن ترامب ماض ليس فقط إلى بناء جدار مع المكسيك، بل وإلى رفع أسوار أخرى من العداء في مناطق متفرّقة من العالم.
الشعب»: علامات استفهام كثيرة يطرحها الجميع لمحاولة استيعاب السياسة التي يتبّناها دونالد ترامب منذ مجيئه إلى الرئاسة الأمريكية،فهل بإمكانكم في ظلّ هذه الضبابية والفوضى أن تحدّدوا مفهوما لها؟
بشير جيدور: سأحاول قراءة سياسة ترامب ونحن في بداية السنة الثالثة من حكمه من خلال قراءة صورته كرئيس والتي هي أكثر ضبابية من صورته كمترشح، لأن المتابعين لم يستطعوا رسمها بدقتها العادية لغياب الوضوح والاتزان في ملامح هذه السياسة منذ البداية، وكأن الرجل حرص على صبغها منذ البداية بأصباغ من عدم الوضوح، ويمكن الإشارة إلى صورته الخارجية والداخلية كالتالي:
خارجيا: لم يبق ترامب على وعوده التي أطلقها في بداية حملته بأن يتعاون مع الرئيس الروسي لوضع علاقات بلاده بروسيا على سكة جديدة ثابتة الأركان، كما أبان منذ البداية على ملامح حملة شرسة ومعادية للصين بدون مبررات حقيقية، وظهر كأنه آت على صهوة حصان ليقف في وجه الصعود الصيني، كما بدا عازما على تقويض سياسات سلفه (أوباما) بإلغاء اتفاقية التجارة عبر الباسيفيك، وتحديد معالم جديدة لعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين في أوروبا وآسيا.
داخليا: تحالف الرئيس ولو بشكل غير رسمي ولا مباشر أيضا مع الطبقة العاملة في عمومها، من أجل إمضاء سياساته الداخلية الموجهة للمواطنين، لكن الإشكال الذي بات يلازمه حاليا هو عدم ثقة قطاعات أخرى من هؤلاء في الداخل وهي جبهة تتوسّع يوما بعد يوم، فمن مديري شركات إنتاج النفط وتصديره الذين أبدوا مخاوف من تداعيات سياساته على أعمالهم، ومنها توقيع عقوبات على إيران مع رسم خريطة بدول تدخل في خط العقوبة ودول أخرى مستثناة منها.
جدار من الفتور يرتفع بين أمريكا وأوروبا
سياسة الرئيس الأمريكي لا تكتفي بتوتير الأجواء على المستوى الدولي، بل تثير الكثير من القلق في الداخل وتدفع نحو تأزيم الوضع مثل ما يحصل بسبب الجدار، فلماذا يفعل ترامب كل هذا وأي مآل لسلوكه؟
حسب رأيي، الرئيس ترامب يعمل في الداخل وفق مرتكزين:
المرتكز الأول: «ترامب» يتحرك وفق نظرية (التاجر والزبون)، لأن كل قراءة لشخصية الرجل وسياساته لم تبتعد أبدا عن ربطها بمنطقه القديم، فكونه رجل أعمال وصاحب مشاريع واستثمارات جعلت صفة (السياسي) ترتبط به في مقام ثان بعد صفة التاجر التي تلاصقه في المقام الأول، فهو إذن يستثمر وينتظر أن يحقّق أكبر ربح في مدة وجيزة، على عكس السياسيين الذين يتميزون إجمالا بالنفس الطويل وحساب الربح على الأمد المتوسط والبعيد.
المرتكز الثاني: يتحرّك «ترامب» داخليا حسب هذا المرتكز وفق إملاءات وسياسات الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه والذي أوصله إلى سدّة الحكم، فالحزب بدأ يحضّر نفسه لرئاسيات 2020، وذلك بدفع الرئيس إلى انتهاج سياسات أكثر حدة واندفاعية خاصة في مجالات التجارة والاقتصاد والإنفاق العمومي، على اعتبار اختصاصاته كرئيس وفي ظلّ خسارة الحزب لعدد معتبر من مقاعده في التجديد النصفي الأخير لصالح الديمقراطيين.
الرئيس الأمريكي ماض في إحداث زلزال على مستوى العلاقات الدولية، حيث نراه يجهزّ على تحالفه مع أوروبا، فهل سيمضي ترامب للنهاية ويقطع الحبل السرّ الذي يربط بلاده بأوروبا حليفه الاستراتيجي؟
لطالما اعتبرت العلاقات الأوروبية الأمريكية مميزة وجيدة على اعتبار أنها قامت في بداية أمرها على منطق التحالف والعقيدة الواحدة، لكنها بمجيء ترامب إلى سدّة الحكم قذف على هذه العلاقة سحائب الفتور ولفها بدثار الجمود، بسبب إحساس الأوروبيين بأن الإدارة الأمريكية الجديدة جعلتهم في الصف الثاني وربما الثالث في الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، حيث سبق وأن قال دونالد ترامب صراحة للرئيس الفرنسي أن «الاتحاد الأوروبي بات أسوء من الصين في المجال التجاري»، وحتى تصرّفه الأخير في الشأن السوري أصاب حلفاءه الأوروبيين بالإحباط منه بعد اتخاذه قرار سحب قواته من سوريا دون استشارتهم، وقد دخلت ألمانيا على خط توجيه النقد إلى الإدارة الأمريكية الجديدة علنا في الآونة الأخيرة بعد أن شعرت بسهام التجاهل الأمريكي تصيبها.
مع ذلك أعتقد أن العلاقات الأوروبية الأمريكية لن تصل إلى درجة قطع الحبل السري، لأن الرئيس الحالي ووفق منطق التاجر والزبون يعمل على استجلاب أكبر قدر من مصالحه من الأوروبيين ولو على حساب المبادئ والعقيدة المشركة.
«صفقة القرن» تحابي إسرائيل ومآلها الفشل
ترامب يريد إعادة ترتيب الشرق الأوسط من خلال ما يسمى بـ»صفقة القرن» فما التغيير الذي يسعى إليه في هذه المنطقة المكدّسة بالأزمات؟
كثر الحديث عن ما اصطلح على تسميته بصفقة القرن الأمريكية، ولم يستطع الإعلام العربي عموما تصميم عموده بشكل كامل، فبقي عبارة عن تصوّر لمشروع مخيف وخطير وهو عبارة عن مقترح أمريكي يفضّل إسرائيل ويعطيها امتيازات كبيرة، بل ويحابيها أيضا ويجعل لها موضع الصدارة في المنطقة ويأتي على جلّ حقوق الفلسطينيين ويفرض عليهم الأمر الواقع، وهو تصوّر صحيح نسبيا، لكنه في حقيقة الأمر يعتبر وبالا على الإدارة الأمريكية الحالية صاحبة المقترح، على اعتبار أنه سيكون مرفوضا من طرف العرب في عمومهم ومن طرف الفلسطينيين وهذا أمر عادي، لكن غير المتوقّع أنه سيرفض أيضا من طرف الإسرائيليين والذين يفترض أنه قد صيغ على مقاسهم، ليضاف بذلك إلى مجموعة خيبات هذه الإدارة الأمريكية الترامبية وسوء تدبيرها للأمور، ذلك أن هذه المبادرة الصفقة تدعو إلى إقامة دولة للفلسطينيين على غالبية أراضي الضفة الغربية وإعلان أجزاء من القدس الشرقية عاصمة لها، وتكون القدس الغربية بالمقابل عاصمة لإسرائيل، وتبقى السيادة على القدس القديمة والمسجد الأقصى لدولة إسرائيل ولكن تدار بشكل مشترك بين الفلسطينيين والإسرائيليين والأردن.
وسبب رفض الإسرائيليين لهذه الصفقة يرجع للمساحة الكبيرة التي سيضطرون إلى التنازل عنها لصالح الدولة الفلسطينية وإلى حجم الكتل الاستيطانية التي سيرغمون على تفكيكها، وهو ما يتعارض مع السياسة الصهيونية القائمة على التوسع والاستيطان.
ما تعليقكم على سلوك ترامب تجاه روسيا والصين وضغطه عليهما الأولى بورقة تعليق معاهدة الأسلحة النووية والثانية بورقة الحرب التجارية؟
الإدارة الأمريكية الحالية تعمل على وقاية نفسها بما هو تحت يدها من مقومات القوة التي اكتسبتها على مدى عقود، ومع ذلك، فإن هذه السياسة التي تعتبر اندفاعية ومتهوّرة ستؤدي رويدا رويدا إلى تبديد ما كسبته الولايات المتحدة الأمريكية من قوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، خاصة في ضوء السياسات التي بدأ «ترامب» فعلا في تجسيدها ضد أهم رموز تلك الحقبة وهما روسيا والصين، فحسب ما كتبته إحدى الصحف اليومية البريطانية، فإن التصعيد مع الصين بخصوص الرسوم الجمركية بدفع ودعم من حزبه الجمهوري، قد تكون له انعكاسات سلبية على أداء الاقتصاد الأمريكي نفسه، لأن تصاعد التوتر مع الصين بخصوص هذه الرسوم قد يؤدي إلى نشوب حرب تجارية تكون نتائجها كارثية على الأسواق الدولية عموما والأسواق في كلتا الدولتين خصوصا.
وحتى بالنسبة لورقة تعليق معاهدة الأسلحة النووية فالتسرّع بادي وواضح من طرف الإدارة الحالية، وأثبت الرئيس «ترامب» للعالم أجمع أنه ليس متمرسا سياسيا، فإعلان وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، تعليق بلاده لالتزاماتها التي كانت تؤطرها المعاهدة ابتداء من يوم 02 فيفري الماضي، وأنهم سيخطرون الروس رسميا بانسحابهم من المعاهدة خلال 06 أشهر، هو في حدّ ذاته مؤشر غير محسوب العواقب، لأن الأمريكيين ببساطة لم يستطعوا أن يثبتوا انتهاك روسيا لميثاق المعاهدة الموقعة منذ 1987، والذي هو في الأصل مبرر الخروج، وبالتالي زالت ورقة التوت عن «ترامب» الذي بدا عاجزا عن تبرير خطوته بالخروج من اتفاق وقعه من سبقوه مع روسيا.
تحييد كوريا الشمالية للتفرّغ لإيران والصين وروسيا
سلوك غير واضح تبنّاه ترامب اتجاه فنزويلا، فهل يريد فعلا أن يغيّر النظام هناك بالقوة أو أنه فقط يضغط عليه لإدخاله بيت الطاعة، كما فعل مع رئيس كوريا الشمالية؟
أولا، يجب وضع حقيقة أولى موضعا صحيحا، وهي أن «ترامب» لم يدخل كوريا الشمالية بيت الطاعة ولن يدخلها على المدى المنظور على الأقل في وجود رئيس عنيد وشرس لهذه الدولة يسمى «كيم جونغ أون»، وفي ظلّ الواقع القائم الآن على الأرض والمستند إلى نظرية «توازن الرعب النووي»، ومع ذلك فترامب نجح في جزئية أخرى لكنها بسيطة وهي «تحييد» كوريا الشمالية ولو بشكل مؤقت، وذلك ليتفرغ إلى ملفات أخرى كإيران والصين وروسيا.
أما عن علاقته بما جرى في فنزويلا في أواخر جانفي الماضي، فتعتبر إشادته بالحراك الذي قام به قطاع معين من المعارضين الفنزويليين لإقناع جيشهم بعزل الرئيس الشرعي ووصف ذلك السلوك «بالكفاح من أجل الحرية»، هو دليل لا يقبل الدحض بأن للولايات المتحدة الأمريكية بنسختها «الترامبية» يد في دعم مسلسل الالتفاف على شرعية الرئيس الحالي والشرعي «نيكولاس مادورو».
ترامب وبمنطق رجل الأعمال الذي لا يبحث إلا على الربح المالي، يقدّر كل قراراته بالمكاسب التي تعود على بلاده، ألا تعتقدون بأن هذا الأمر هو الذي ظلّ رؤساء أمريكا يسهرون على تحقيقه وإن كان وجه الاختلاف الوحيد أن ترامب يجاهر به ولا يخفيه؟
من سوء حظّ هذا الرئيس الأمريكي أنه بخلاف من سبقه إلى البيت الأبيض، لم يستطع جعل كل دعائمه الفكرية التي صاغ من خلالها برنامجه الانتخابي موضع تنفيذ حقيقي، وبقيت الكثير من وعوده حبرا على ورق، وبالمقابل تجاسر على عدد من القضايا وبادر بمعالجتها من دون أن يشير إليها خلال حملاته الانتخابية، كقضية التسوية مع كوريا الشمالية أو سحب قواته من سوريا أو حتى إعلان رؤية متبصّرة لحل قضية الصراع العربي الإسرائيلي، فهو كان قد فاجأ العالم بعد مجيئه إلى السلطة أنه قد يكون عاجزا عن تنفيذ كل السياسات التي تبناها في برنامجه.
ونحن نخرج من العام الثاني لحكم ترامب يمكن أن نستنتج أن كثيرا من مقارباته ضحلة وكثير من تصوراته يشوبها نقص كبير وقصور فادح، كمقاربته لحل الأزمة في الشرق الأوسط والتي ستصطدم برفض كل أطراف الصراع لها وحتى من حليفه الاستراتيجي إسرائيل، بالإضافة إلى خيبة الأمل منه في الملف السوري وتعامله مع قضايا إنسانية كانت بمثابة مرجعية أمريكية بعقلية التاجر.