القراءة الغائب الأكبر والوسائط تعمّق العزوف عن معانقتها
يساهم فعل القراءة بجزء كبير في بناء شخصية الفرد الثقافية، وتتطور هاته الملكة وتنمو في الذات البشرية خلال مختلف المراحل العمرية، لتصبح حاجة ضرورية ترتبط بحاجات الإنسان البيولوجية اليومية، ويعتمد فعل القراءة بصورة كلية على الحضور التام للعقل مقارنة بالحواس التي تعتبر مكملا في عملية المتابعة والتخزين البصري، وغالبا ما تكون عملية القراءة فعلا مـُملا لدى من لم يتعود على ممارستها إذا ارتبطت بعناصر الترفيه والتسلية التي نجدها في باقي العادات الأخرى التي تعتمد على الحواس فقط، وهو ما نجده متاحا في تناول الوسائط الحديثة للاتصال كمشاهدة التلفزيون أو الاستماع إلى الأغاني أو ولوج فضاء الأنترنت والحضور الدائم في مواقع التواصل الاجتماعي .
أردنا أن نعرف حدود القراءة والمقروئية لدى المجتمع بمدينة سوق أهراس من خلال هذا الروبورتاج الميداني، هل مازال المواطن يقرأ ويقتني الكتب، هل هناك ثقافة حضور الكتاب لدى الأسر؟ كم كتابا يقرأ الشباب في الشهر وفي السنة؟
خلال تجولنا بالساحة العمومية وسط المدينة «لبلاصات» والتي تعتبر فضاء عموميا مفتوحا على شرائح اجتماعية متعددة، حاولنا أن نعرف قيمة الكتاب وفعل القراءة لدى المواطن السوقهراسي، وكم كانت الآراء صادمة بين فئة الشباب، إذ أجمع أغلب من التقينا بهم أنه لا علاقة لهم بالكتاب الورقي لا من قريب ولا من بعيد، ماعدا بعض الفئات التي مازالت تزاول دراستها، فهي لها اهتمام بتخصصات علمية بعينها، أما فعل المطالعة يكاد يكون منعدما.
عبد الرحمن شاب في الثلاثينات، مستوى نهائي آداب، متوقف عن الدراسة ويعمل بمحل لبيع الأدوات الإلكترونية، أجابنا أن القراءة بالنسبة إليه باتت من الماضي منذ أن ترك مقاعد الدراسة، سألناه إن كان بحوزته كتب بالبيت أجابنا بمنتهى الصراحة ليس لدي أي كتاب بالبيت، أردنا أن نعرف من أين له أن يستقي المعلومات ويثقف ذاته، قال أنا حاليا أعتمد على الهاتف النقّال، معظم معلوماتي أستقيها من الفايس بوك، وكذا التلفزيون بحكم أنني أعمل بمحل لبيع الوسائل الإلكترونية.
سألناه هل ترى أنك راض على نفسك ؟ قال لنا لا، لأنني أحيانا أتوق إلى بناء أسرة يجب أن أهتم بفعل القراءة لأعطي القدوة لأبنائي يوما ما.
كذلك كان لنا حوار مع رجل في الأربعينيات، وجدناه يحمل محفظة ليتبين أنه معلم في الابتدائي، محمود ـ يقول ـ إن فعل القراءة بالنسبة إليه هو أمر ضروري من أجل تحسين الملكة اللغوية وزيادة الزاد اللغوي للفرد، لكن المشكلة هي غياب التحسيس التام بفعل القراءة، كما أن الوسائط الحديثة للاتصال انفردت بالشباب خاصة وساهمت في درجة عزوفه عن القراءة.
سألناه كم كتابا تقرأ في الأسبوع والشهر والسنة، قال لنا حسب ما أتيح لي من إمكانيات لشراء الكتب وكذلك حسب درجة التفرغ بحكم أنه معلم في الابتدائي وبالتالي مهامه التعليمية تحتّم عليه استغلال الوقت، قائلا إن أغلب مطالعاته تكون زمن العطل.
القراءة ملكة تحتاج إلى المرافقة والإهتمام منذ الصغر
كذلك صادفتنا سيدة في الثلاثينات، أمينة موظفة بإحدى الادارات العمومية، قالت إنها لا تقرأ، وليس لها رغبة في القراءة بحكم أنها ليست من هواة الكتب، مؤكدة لنا أن فعل القراءة هي هواية يتمتع بها أشخاص دون غيرهم، فلا يمكنك أن تفرض فعل القراءة على شخص هكذا دون أن يكون له استعداد نفسي لذلك، وبالتالي العملية تقريبا ترتبط باسلوب التنشئة الأسرية للفرد أكثر منها عملية آلية تكفي لحضور الكتاب ليكون هناك قراءة ودرجة مقروئية.
نفس الرأي ذهب إليه عمي صالح وهو رجل متقاعد في سلك الجيش، قائلا يجب أن تكون هناك تنشئة أسرية للطفل تقوم على التحسيس بقيمة القراءة في حياته، هذا بطبيعة الحال لا يتسنى من دون وجود ثقافة أسرية تقوم على تثمين العلم، وتشجيع المطالعة واقتناء الكتب، مضيفا لما كنا في سلك الجيش كان لنا أصدقاء كثيرون لهم عادات كبيرة في مجال المطالعة، وأخص بالذكر العديد من الزملاء من منطقة القبائل، كانت لهم عادات رائعة فيما يخص مطالعة الكتب الناطقة بالفرنسية، والتي تتعلّق بالروايات العالمية الشهيرة وكتب تحليلية للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في شتى التخصصات، وبالتالي اكتسبت من هذا الإطار عادات لابأس بها من أجل تنمية زادي اللغوي والمعرفي، لكن ومع تقاعدي افتقدت إلى ذلك الجو الذي أحن اليه كثيرا، وأنا الآن مدعو أكثر من أي وقت مضى لأعود إلى فعل القراءة الذي كان حقيقة أمرا رائعا ومتنفسا حقيقيا للفرد.
الإقبال على الكتب بدافع الحاجة
لا بدافع المطالعة
كذلك كانت لنا جولة إلى إحدى المكتبات العمومية على مستوى قلب المدينة، وهي مكتبة غير متخصصة تعنى ببيع الكتب وكذا مستلزمات المدارس، أردنا أن نعرف عن قرب قيمة الكتاب لدى الفرد السوقهراسي بعين صاحب المكتبة، وهل هناك إقبال على اقتناء هاته الكتب الموجودة على الرفوف، وماهي أغلب العناوين المفضلة لدى القاريء .أجابنا صاحب المكتبة وهو شاب في الثلاثينيات من العمر، أن أغلب زوار المكتبة هم من فئات عمرية مختلفة، يمكن أن نحصرها في أولياء التلاميذ بالدرجة الأولى والذين لهم إقبال كبير على شراء واقتناء الكتب التربوية، كذلك تقترن عملية شراء الكتب المدرسية في الغالب باقتناء قصص الأطفال والمطويات التعليمية التي يرى الأولياء أنها محفز لفهم الدروس.
الفئة الثانية والتي ربما لها نصيب من تصفح كتب المكتبة واقتنائها، هي فئة المتدينين ممن يقتنون الكتب الدينية، وفعلا هاته الفئة ترى الكتاب بعين الاهتمام، ولا تنحصر في فئات عمرية معينة، تعمل على اقتناء الكتب الدينية، وكذلك توصي لنا بجلب بعض العناوين التي تكون غير متوفرة.
هناك أيضا جناح للكتب العلمية المتخصصة والتي تعاني من عزوف وقلة مرتاديها، ماعدا بعض الطلبة والأساتذة المنحدرين من الكليات الجامعية، ربما يقبلون على البحث عن عناوين بعينها بدافع الحاجة فقط وليس بدافع المطالعة.
يضيف أيضا أن عملية توفير الكتاب لدى المكتبات ووضعه بين متناول القاريء هو في حدّ ذاته أمر في غاية الصعوبة، بسبب الارتفاع الباهظ في العديد من العناوين سواء كانت كتب متخصصة أو كتب للمطالعة، وهذا بطبيعة الحال أمر غير مشجع لاقتناء الكتاب والتحفيز على المطالعة، لأن تراجع القدرة الشرائية للفرد لا تسمح له باقتناء كذا عناوين بأسعار ربما ليست في متناوله هذا بطبيعة الحال إذا كانت له النية في اقتناء الكتب.
كذلك حسب تجربتي الشخصية المجتمع السوقهراسي وأخص بالذكر الفئات الشبانية تنقصها درجة الوعي بقيمة الكتاب في حياة الفرد، كما أن الضعف في تكوين الفرد لغويا أمر في غاية الأهمية، فكيف تنتظر من شاب لا يملك أي زاد لغوي، أن يقبل على فعل القراءة؟—