الغوص في دهاليز التراث العربي والغربي بنفس إبداعية تعكس الراهن
حكايات جابر الراعي، الرواية التي قرأتها بشغف ولهفة، وأنهيتها خلال يوم ونصف مكرسّة وقتي لها بانجذاب آسر، وغالبا ما أقضي قرابة الأسبوع لأقرأ كتابا ما، الرواية تمرّ بتفاصيلها خلال 26 مغامرة أو حكاية في سرد روائي في ما يقارب 200 صفحة، صدرت عن دار ورق للنشر والتوزيع بالإمارات. الرواية مليئة بحكايات مشوقة متتالية دون خلل في قدرتها على الجذب أو إصابتها بملل الاستمرارية في السرد المتتابع، بل إنها قد تتسبّب في احتكار وقت القارئ لتفصله عمّا يحيط به. وهي رواية لها قدرة على أن تجعلك بطلها بل كل أبطالها لتسرد عنهم أحداثها، نالت الرواية جائزة الإبداع للشارقة كأفضل كتاب لليافعين سنة 2015.
مؤلف الرواية هو نصر سامي (كاتب، شاعر وروائي تونسي). له العديد من الدواوين الشعرية وروايتان ورواية في طور الكتابة (حكايات جابر الراعي ـ الجزء الثاني)، كما إنه مؤسس ورئيس تحرير الكتاب الفصلي (الشاعر). حكايات جابر الراعي رواية تخاطب فئة عمرية من الشباب (15 - 17 سنة). وهي فئة قلما تُستهدف في الكتابة، فنحن نمتلك أدبا للأطفال الأصغر سنّا، ولكن هذه الفئة يتمّ تجاهل الكتابة لها أو خلق أدب خاص بهم دون الغير.
حكايات جابر الراعي عبارة عن مغامرات حملت هدفا وهو استقطاب هذه الفئة، والسفر بهم في مغامرات تأخذهم إلى عوالم من الأدب التي قد تحمل لهم خلاصة من الوعي واستنباط العظة والعبرة في قالب من التشويق والغرابة. فكانت الشخصيات الأساسية في الرواية تتلاقى في جوانب كبيرة بأهداف متشابهة. جابر الراعي الشخصية الرئيسة هو شاب في الثلاثين من العمر لكنه مقيد في طفل بعمر العاشرة وذلك لأنه تعرض للعنة أو لسحر، وبعدها فقد الارتباط بالزمن الطبيعي لنموه. عمل بالرعي وقضى أغلب وقته في القراءة والمطالعة. ومع مرور الأيام كبر عقليا واكتسب حكمة ونضجا لكن هذا النضج لم يطل جسده الصغير. الشخصية الأخرى المهمة أيضا هي الراوي، وكان تاجرا محبا للحكايات والسفر والتجوال بحكم عمله، ولاحقا مع تسلسل الأحداث أصبح صديقا لجابر الراعي وجاب معه رحلاته وأسفار مغامراته بغرض استرجاع عمره واستعادة نموه وحجمه الطبيعي المتناسب لسنّه.
الشخصية الثالثة هي شهرزاد صاحبة التفاحات السبع التي تغني، وهي فتاة صغيرة الحجم ومسحورة توضع في كفّ اليد. وفي نهاية المغامرات وعند استعادة الحجم يتخذها جابر زوجة له. كل هذه الشخصيات الثلاثة صنعت الرواية بشكل أنيق وباهر من الخيال.
الحكاية الإطارية وهي الرئيسية: حياة جابر الراعي الذي يتوقف نموه ويتعرض للعنة ثم ينصلح حاله ويتغير فكره ويتهذب خلقه وأخلاقه، فيسعى لعمل الخير وتقديم الخدمات للآخرين وبالمقابل فإنه يجد النصح والإرشاد لاستعادة حجمه وعمره وعكس السحر وتأثيره والتخلص من اللعنة التي أصابته، وذلك من خلال ثلاثة شروط يجب عليه الإيفاء بها وهي: أن يجد صديقا صدوقا يفتديه بروحه وحياته، ثانيا أن يجد شهرزاد، وقد وجدها مرة ثم فقدها خلال مغامراته المتتاليه فعاود وكرر بحثه عنها ليجدها مجددا. الشرط الثالث تحقّق فعلا بعد أن اجتمعوا هم الثلاثة معا، وتكوّنت الظروف الملائمة لسرد القصص والحكايات فيما بينهم. وهكذا كان يتم التناوب بينهم لسرد القصص ومع كل قصة كان جابر وشهرزاد يشهدان تغيرا في طولهما وينموان بشكل يعيدهما لعمرهما ونموها تدريجيا يوما بعد الآخر.
فكرة الرواية عبارة عن سرد قصص مستوحاة من التراث العربي والغربي، وقد تكون قصصا متناقلة شفهيا اقتبسها الكاتب ليصنع أفكار جديدة في رؤية خاصة ومستقلة من ذات الكاتب نفسه، استطاع أن ينقل القراء إلى عمق التراث القصصي الايطالي والتونسي والافريقي وأمريكا اللاتينية بنكهة خاصة من قلم الكاتب الذي تفرد في كتابتها فيما يخدم الفكرة الأساسية في روايته، فهي مغامرات يومية مشابهة لحكايات ألف ليلة وليلة، شهرزاد التي كان بقاؤها مرهونا بقصصها التي كانت تسردها، وعمرها عن القصة التي تقصها لشهريار، فحيت تكفّ عن الحكي تُنهى عنها الحياة. فقد كانت الحكاية معادلة للحياة والبقاء والعمر، وهذا هو الدرس المستفاد من ألف ليلة وليلة. وأيضا هذه الفكرة تبلورت فيما بعد في السيرة الذاتية التي كتبها الروائي العالمي جابرييل غارسيه ماركيز في كتابه بعنوان (أعيش لأروي) وهذه الفكرة بالطبع مستنبطة من شهرزاد في ألف ليلة وليلة. ويتشابه معهما جابر الراعي في نفس الفكرة من حيث أن الحكاية تعادل العمر والزمن واستعادة الحجم الطبيعي، فجابر لن يكبر إلا بالحكي، فعند التوقف عن السرد يتوقف النمو والكبر في الحجم، وهذا نفسه مايحدث معنا تماما وبشكل طبيعي، فالإنسان يعيش، يكبر ويفعل أشياء كثيرة وجميلة بالكلام والحكي والقول ومن ثم الفعل وذلك لأن أقوالنا تسبق أفعالنا.
حكايات جابر الراعي أعتبرها تجربة فريدة من نوعها، في محاولة الخروج من سرديات صارت تقليدية إلى عوالم خرافية ومحاولة الاهتمام بالفكرة أكثر من الجوانب الاستهلاكية في أطر اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. وهي ذات مجال شاسع لا تحدها معوقات زمان أو مكان، فهما عنصران مطلقان في الرواية قد تقعان في أي فراغ، بدون ملمح خاص لمكان أو هوية زمنية معينة. حكايات الرواية لها خاصية كونية ذات أحداث مطلقة، قد تصلح للبدء كالقصص الشعبية المعتادة والتي تبدأ بمفتتح كان يا مكان، والتي تعودنا الانصات لها عندما كنا صغارا. الكاتب نصر سامي قد ألقى كل تلك القصص وعددها 26 قصة في جلساته الدراسية مع تلاميذه في تونس، مستخدما مجالا لإثارة مخيلتهم عندما كان يجعلها عن عمد ذات نهايات مفتوحة وأحيانا قصص ذات نهايات غير كاملة أو ناقصة، بذلك كان يوسع لهم دائرة المشاركة في وضع نهايات مقترحة من قبلهم، أو جعل المنافسة بينهم لتخيل نهاية أروع من المتوقع. رواية جابر الراعي تطلبت ثلاث سنوات لكتابة الجزء الأول منها، بينما الجزء الثاني في طور الكتابة وسوف تشتمل على 40 حكاية شعبية، وسوف تدور في مواقف مختلفة وأحداث لنفس الأبطال، والكاتب اهتم في الجزء الثاني أيضا بالأدب الشعبي وخصوصا السيرة الهلالية (حكايات خرافية باللهجة التونسية المحكية) بالإضافة إلى جمع الترجمات المتوفرة للحكايات الشعبية العالمية. عمد الكاتب إلى كتابة الجزء الثاني منطلقا من صدى النجاح الذي حقّقه الجزء الأول، ومطالبة القراء له بالمواصلة في سرد الأحداث المتعلقة بالشخصيات التي استحسنوها في الجزء الأول، حيث أنها لاقت الإعجاب، كما إن الهدف الذي سعى له الكاتب قد تحقّق في الجزء الأول والذي كان عبارة عن هدف تربوي وتقديم نموذج أدبي يجمع بين التعليم والتشويق والمتعة، وتمكين الطالب من أدوات السرد والوصف والكتابة. كما يرى الكاتب أن الأحداث والشخصيات غنية وثرية وتحتمل إمكانية تمثيل أدوار في حبكات أخرى مستفيدا من القصص التراثية.
تذكرني الرواية بسلسلة هاري بوتر الأسطورية، حيث إن الكاتبة استمدت قصصها من تراث البلدان المختلفة وبرعت في كتابتها بإحساس درامي عال، وحتى عندما تمّ تصوير الفلم سنمائيا كان معتمدا على تقنية عالية الجودة، باستخدام أحدث تكنولوجية في عالم هوليود.
وبما أن الجيل الحالي جيل عصر التكنولوجيا مهتم بالوسائل المنبثقة من التطور الحديث، فإن أفكارا من هذا النوع ستستهوي ذائقتهم وتجذب اهتمامهم لذلك، فبالرغم من أن هذه القصص ذات مضمون تراثي، ولكن الرؤية الكتابية تجاوزت إلى عالم الخرافة والسحر بتكنيك ورؤية إبداعية لا مثيل لها. وهذه المحاولات أظنها الأكثر شهرة ونجاحا، والأكثر إقبالا على الاقتناء والقراءه من قبل القراء المهتمين، وتحقق مبيعات أعلى من غيرها، بحيث إنها تقودنا خارج الإطار المألوف والاعتيادي الشائع.