أحدثت الثورة التكنولوجية والالكترونية المتسارعة والجارفة العجيبة، ما يشبه القطيعة الثقافية والمعرفية بين القارئ في كل أشكاله والكتاب، نجم عنه مرحليا تقهقر وتراجع وأحيانا هجرة غريبة لـ «الكتاب»، انعكس بشكل سيء وسلبي على دور النشر المهتمة بإنتاج وطبع الكتب الفكرية والأدبية والتاريخية والدينية والعلمية، وهو ما رهن مستقبلها، وخلّف اعتقادا بأن أيامها أصبحت تعد على الأصابع وحياتها باتت على المحك. وأمام هذا الوضع المقلق استطلعت «الشعب» آراء ناشرين ومهتمين بالكتابة، وعادت بآراء تشرح الوضع وتحلله وتستشرف المستقبل في هذا الشأن.
اعترفت الكاتبة والأستاذة الجامعة خيرة بودردق لـ «الشعب»، أن الإنسان اليوم عموما والأجيال الناشئة أمام عولمة حقيقية فيها تدفق متسارع وجارف، لا ينتظر ولا يتوقف، وبحكم ميلها للكتابة الأدبية وتخصصها في التعليم الأكاديمي، فهي ترى بأن دور النشر اليوم محاصرة وعلى المحك، وهي تعاني كما يعاني الكاتب والأديب، فبعيدا عن الثورة العلم والتقنية، تجد الناشر يعاني نقصا في التقنيين والمصففين والمدققين وما إلى ذلك، وبالكاد تكتمل أقسام دور النشر وتتكامل، في تعطل عملها وعمل الأديب، وهو ما يرهن الأعمال المنتجة حتى نقول الإبداعية، وينجز نصف أو أقل من الأعمال الأدبية والعلمية وما إلى ذلك، ويجبر البعض من الناشرين في نسب، التوجه نحو الاستيراد حالهم حال مستوردي المواد الاستهلاكية وما شابه، ووسط هذه العراقيل إن صح التعبير التقنية والموضوعية، تجد في المقابل أمورا تعرقل و تنافس دور النشر و تحبط من عزائم أصحابها إلى حد اليأس والذوبان، هي المنتوج الالكتروني أو الكتابي الالكتروني والموسوعات والمجلات وما إلى ذلك، فهي بالحقيقية «غول» يضطهد تلك الدور ويرعبها، ويجعل مستقبلها غامضا، في حين أن الحقيقة الدائمة والتي لا يختلف بشأنها اثنان، أن هذا الزحم الالكتروني الافتراضي يعدم العلاقات الإنسانية في كل أبعادها، وتُغيب الرغبة في الإبداع وإنتاج ما هو جميل ومبدع، قالت الأديبة.
وبدوره الأديب المخضرم وصاحب دار الحضارة للنشر رابح خدوسي، كشف لـ «الشعب»، أن من الأمور التي عرقلت وتعرقل نشاط وعمل مثل هذه الدور وأثرت في التفاعل الثقافي، هي حقيقة «انقراض» القارئ، فالكل يتفق في المقولة المشهورة «أعطنا قارئا أعطك شعبا متحضرا»، والتوجه اليوم نحو الإبحار الالكتروني في الوسائط العصرية، وأصبح أن تجد قارئا يحمل كتابا أو مجلة من النادر حدوثه ومشهده، تولد عن ذلك في حقيقة مرة «إهمال للكتاب»، والنتيجة الرياضية في هذا الشأن، تؤدي إلى انعكاس الحال على الناشرين، وأدت أيضا إلى أن فيه مؤسسات نشر غيرت من نشاطها تماما.
وفي سياق النظرة شبه التشاؤمية السابقة، يرى فريق آخرين من طبقة المثقفين والمهتمين بالشأن الأدبي، يرفض مثل هذه النظرة السلبية تجاه دور النشر، ان على الجهات المسؤولة الوصية تقديم الدعم لدور النشر، والتكثيف من معارض الكتاب مثلا والسنوات الثقافية التي تحدث بين الفينة والأخرى والمشاركة فيها محليا ووطنيا ودوليا، وهي لا محالة ستزيد من عمر هذه الدور من جهة، وتضع حدا للفكرة التشاؤمية بأن دور النشر آيلة للزوال، فضلا عن الدعاية لمثل هذا المؤسسات التي تهتم بالكتاب والقارئ، عبر المنابر الإعلامية المرئية والمسموعة وحتى المقروءة، وعبر الوسائط الاشهارية والجداريات الاعلانية، حتى تثبت رسالتها في عقول الناس وتدفعهم بالتوجه والعودة الى خير جليس في الانام أي الكتاب، وهذا يعني الناشر ودور النشر، فالعلاقة رياضية محضية ومتعدية ولا تقبل القسمة أو الانعزال.
وخلاصة القول في هذا المشهد الثقافي والتي يتفق بشأنها مبدعون وكتاب ناشئون ومخضرمون، أن عالم النشر اصبح واقعا تتهدده ظروف و أمور محيطة تعصف به، ولا تشجع على الابداع وتطوير الذات، فإذا كان الاديب يعاني ويتألم بسبب واقع الثورة التكنولوجية التي غيبته واهملته وهمشته، في ظل التوجه والاعتراف من الوسائط الافتراضية، فحال دور النشر ليس بأحسن حال، والإرهاصات تقول بأن مستقبل هذه الدور فعلا أصبح مجهولا ومخيفا، والقدير عالم الغيب وحده يعلم إلى أي مرفأ أمن و أمان سترسو، وتنجو وينجو أصحابها من مخالب المجهول، ولكن يمكن لهذا التوقع أن يمحى ويزول، الا بنية صادقة وإرادة فولاذية قوية مقولبة في رسالة نبيلة، تهدف لخدمة المجتمع والنشئ الناشئ، وتتمنى له الخير والتطور في الذات والفكر والابداع، وبذلك يستمر المشهد الثقافي وبين طياته مقومات الازدهار والاستمرار بين الحضائر والحضارات، ولا يعود وجود لأصحاب الكلام المشاع من أنه يأتي يوم تزول فيه الأوراق التي تكتب بحبر وراق، وتخلفه الوسائط الالكترونية الافتراضية.