«لم تدم علاقتي به سوى شهرين، ولكن للمكان الذي ضمنا سوية أرض خصبة، تنمو بها أخلص الصداقات، ترويها دموع أصحابها، وتجذبها آهاتهم اللاهبة حيناً آخر، لازلت أتذكر ساعة دخوله علينا، خلته بادئ الأمر خريج سجون، وشدما أدهشني إذ عرفت بأنه خريج كلية الهندسة»… كل تلك الأشياء رسمها لنا الكاتب (يوسق هداي ميس) من خلال روايته (أصفاد من روق) وعلى لسان السارد العليم لندرك أن هناك ثمة حكاية يريد أن يرويها، ولكن من خلال تلك لشخصية التي رسمها لنا والذي حرك سواكنه سؤال الراوي قائلاً:
- ما هي دعوتك؟
إذاً ثمة جواب لذلك السؤال الذي قادنا من خلاله الراوي الثاني ليرويه لنا، لنكتشف أن اسمه (مهند)، وان سبب وجوده هنا هو ارتكاب جريمة قتل، وسببها امرأة أحبها بكل جوارحه، وذلك الحب هو من قاده إلى هنا (السجن)، لقد توضحت معالم المكان والذي دفع بالسارد أن يتخذ مكاناً بالقرب من مهند ليهجعا على مكان واحد، وليسمع حكاية صديقه عاشق المرأة «مهند» الذي راح يسرد لنا تفاصيل الناصرية وكليته (الهندسة / القسم المدني) التي يداوم فيها في جامع بغداد، حيث قال بدأت قصتي معها منذ ثلاث سنوات وهي طالبة في الإعدادية، إذاً لقد رسم لنا مهند أول ملامح حكايته ليقودنا من خلالها إلى الإفصاح عن مكنونات دواخله تجاه تلك المخلوقة التي عرفها باسم «نهلة»، ناقلاً شيئاً من صراعاته مع نفسه التي دفعته لكتابة رسائل بوح لها، والذي يراح يناجيها لكن دون جدوى، فغيابها كان حضوراً في داخله هو، لينتقل بنا رساماً صوره لأولئك الوافدين الجدد الذين غيّروا الحدود ليستقروا في الناصرية أصحاب الكفافي البيض والحمراء يعلوها عقال عربي، يرتدون «دشاديش» بيضاء، كانوا مجموعة من المبعدين، ومن ضمنهم مهند الذي أصبح له معه حكاية لكشف ـ ومن خلال سرده ـ أنه السبب في وجوده في هذا المكان، فلقد سرق منه حبيبته التي كان دوماً يشاهدها معه في كل الماكن مما يقض مضجعه، وقد تكللت تلك العلاقة بزواجهما، مما أشعل النار في داخله، والذي دفعه لرسم خطة للانتقام من ذلك الذي اسمه مهند، فافتعل المرض ليطلب النجدة منه لنقله إلى المستشفى، وفي الطريق وهما داخل السيارة تبادل فهد حديث الأيادي واللكمات ليكتشف مدى ضعف ذلك الطود الشامخ الذي فضّلته نهلة عليه، لينحو به إلى مكان معزول، ويخنقه ويرش عليه جالون بانزين ويحرقه ليتحول إلى (جثة مفحمة)، لينهي قصته، ولينتقل بنا السارد العليم إلى فصل آخر يخبرنا فيه عن مصير (مهند)، حيث قال (في أحد صباحات تموز صدر عفو رئاسي إلى كل السجناء القابعين في السجون العراقية عدا مرتكبي الجرائم الكبرى، الأمر الذي شملني بهذا العفو، وحرم (منهد) منه، فخرجت إلى العالم الخارجي أتنسم هواء الحرية، فيما ذهب المسكين إلى (أبو غريب)، لينتظر تنفيذ حكم الإعدام، وبهذه الطريقة انطوت صفحة ذلك الشاب الذي ظلم وانظلم في آن واحد، ليدفع بالسارد العليم والشخصية المشاركة في العمل الذي يظهر ويختفي من خلال أحداث العمل ليقول لنا ( وإذا كنت قد خبرت قصة القاتل من لسانه شخصياً، فقد تعذر عليّ قصة المقتول، وهل كان بدوره هو الآخر ظالماً ومظلوماً، لعل مهند قد شوّه صورة فهد، ومن يكون فهد هذا؟).. كل تلك الأشياء التي سمعها من مهند دفعه الفضول لمعرفة قصة المقتول.
تشاء الصدف ان يلتقي السارد ومن خلال وجوده كطالب مسائي في كلية التربية/قسم اللغة الإنكليزية، ومن خلال لقائه بعبدالله الذي كان يشاركه السجن بزوجة (فهد) التي كانت تدرس في الكلية والقسم نفسهما، فعرفها عليه عبدالله أثناء تواجده في الكلية، وألتقى أيضاً بصديقتها (حنان) التي أعجب بها من النظرة الأولى ليكلل ذلك الشيء عبر لقاءات عديدة إلى علاقة حب، وبعد عدة أحاديث اكتشف هو وعبدالله أن (فهد) قد ترك رزمة أوراق، قد تكون مذكراته التي كتبها طوال سنيّ وجوده في الكويت، أخبرت به صديقه عبدالله الذي بدوره حملها بعد ترتيبها لقراءتها، فكانت يومياته التي سرد فيها وبطريقة (الميتاسرد) شريط حياته منذ طفولته ومراهقته التي دفعت به لقيامه بعلاقات مع فتيات عدة، ليتوج بعد سنوات بعلاقة جدية مع ابنة عمه (خلود) التي قضت معه سنوات، ليفاجأ برفضها له كزوج، لأنه (بدون)، أي ليس من أبناء الكويت لأنه لا يحمل الورقة الحمراء، والتي تشكلت عندها عقدة كبيرة ليضاف إلى جرحه من (خلود) التي عيّرته ببداوته وعدم انتمائه إلى هذه الأرض، فهو إنسان بلا هوية، فوجوده يعني أوراقاً ثبوتية، ولكن أنّى يكون ذلك برغم مهنة أبيه كشرطي التي لم تشفع له ليثبت وجوده كمواطن كويتي من الدرجة الأولى، فـ«خلود» أصبحت بالنسبة لفهد الألم الذي بقي ينخر في جسده منذ أن رفضت وأخذ يكبر ذلك الألم ليقتل كل شيء جميل فيه حتى بات يرى الأشياء من حوله من منظار أسود، فكلمة (بدون) هي أشبه بإخصاء له، فلقد أصبح مجرد جسد بلا روح، وقد شكلت له كلمة (غ . ك) عاهة كبيرة في نفسه لا يعرف كيف يتخلص منها، ولكن لولا وجود صديقه عبدالله بجانبه وتخفيفه شيئاً مما يعانيه لانزوى مطلّقاً كل شيء حوله، فثقة عبدالله بنفسه وفرض وجوده كمواطن كويتي برغم بدونيته جعلت الآخرين ينظرون إليه بإعجاب، فكان واثقاً بان له الحق في هذا الأرض التي يعيش عليها وفي الوطن الذي يسكن فيه، ثقته بعبدالله أرجعت له ثقته بنفسه ليواصل الحياة والعيش كمواطن كويتي غير متناسٍ كرهه لخلود التي بقيت تعيّره كلما رأته، مما حدا به إلى أن يتحداها ويثبت وجوده كإنسان يستطيع العيش ويحب كالآخرين دون الاهتمام بكلمة (غ . ك) والتي قادته ليلتقي بحورية جميلة تعمل كبائعة في أحد المحال التجارية المتخصصة لبيع العطور، وبعد عدة لقاءات دفعه هيامه لمشاكسة البائعة والدخول معها في حوارات عدة ليتعرف عليها، فتم له ذلك، فأخبرته أن اسمها (كارولين)، تقيم منذ سنوات مع والديها في الكويت، حتى صارحها بحبه لها، بعدما عرف من خلال صديقه عبدالله الذي كان بمثابة دليله أن (كارولين) طالبة مسائية في دامعة بيروت قسم اللغة الإنكليزية، وهي أيضاً كاتبة معروفة في الحرم الجامعي، ولها نتاجات أدبية.. ليستمر (فهد) بسرد رحلته لنا ومن خلال مذكراته.
لقد أبدع الكاتب (يوسف هدّاي) بالإمساك بالخيط السردي ووفق لعبة الاسترجاعات (فلاش باك) ولعبة تحولات الزمن (ماضٍ _حاضر _ حاضر_ ماضٍ)، ومن خلال لعبة تبادل وتناوب الشخصيات بالسرد ولكنه أجاد في سيطرته على وحدة البناء والحدث دون ثغرة، ليقودنا من خلال فهد إلى مواصلة السرد ليصطدم بكلمة (غ . ك) والتي قصّ فيها حكاية مفتعلة على كارولين ليرى وجهة نظرها بهذه الفئة، ففوجئ بها تنتقص منهم، وتطلق عليهم عبارات لم يرضَ عليها، وقد قرر في دخيلة نفسه أن يصارحها من خلال كتابة رسائل سلمها لعبدالله، ليُفاجأ بعد شهور بأن كارولين قد تزوجت من رجل كويتي، وهو ما عرفه عند سؤاله عنها إحدى البائعات التي أخذت مكانها، وبعد حديث مقتضب دفعت الفضول بالبائعة لتسأل (فهد) : لِمَ هو مهتم بـ«كارولين»، فلما أخبرها عن اسمه نظرت إليه بغضب، وتنصرف عنه، لتتركه في جرحه الثاني بعد جرحه الأول خلود، والتي تذكرها فجأة، لقد أخذت خلود حيزاً في مذكرات فهد، فهي الدافع لكل ما يعيش فيه الآن من حالة الضياع والتشرد هنا وهناك برغم وجود سكنه.
فكارولين هي امتداد لخلود، ولكن بفارق كبير، فخلود قد قتلت أحلامه عندما رفضته وأعلنتها صراحة دون خوف، على عكس كارولين التي لم تكن تعلم شيئاً عن ماضي فهد وهويته لولا كتابته لها رسالة يخبرها بها بكل شيء، إذاً هو من أقصى نفسه من جثة كارولين لأنه أخبرها بحقيقة وجوده ككائن (غ . ك)، مما حدا بها إلى الزواج ممن يضمن لها هويتها وكيانها كإنسانة تبحث عن الاستقرار، كل تلك الصور مر بها فهد وهو يستمع للبائعة، وكذلك ما أخبره به صديقه عبدالله، وحتى عبدالله قد أقصي كوجود فهو غير مستقر لأنه أيضاً (غ . ك)، ويعمل على قيادة سيارة أجرة بسرية تامة خوفاً من الوقوع بأيدي رجال المرور، هذا أولاً، ولرفضه من قبل (خديجة) شقيقة فهد التي أراد الزواج بها، و كذلك رفضه والدها، لأن عبد الله غير مستقر بحياته، فهو مهدد في أي لحظة لحالة الإبعاد عن الكويت، وقد حدث ذلك عندما ضبطه رجال المرور ليبعدوه إلى خارج (وطنه الكويت)، ويتم نفيه إلى العراق، ويستقر في الناصرية…ويستمر فهد بسرد أشياء أخرى عن حياته، ليصل بنا إلى حدوث الزلزال الذي تمناه للكويت لكسر هيبة حكامها عندما قامت القوات العراقية بغزو الكويت بإيعاز من صدام حسين، ليغلق صفحة من حياة فهد، والذي أنهى تاريخ مذكراته في (2/8/1990)، ليُبعَد هو الآخر إلى العراق ويستقر في الناصرية..بعدها أخذ فهد ينقل لنا صوراً من ممارسات رجال صدام حسين على الحدود وهم يستقبلون المبعَدين (البدون) إلى المحافظات الجنوبية، وليستقر هو في الناصرية، ويقتل بدافع الغيرة من قبل فهد لأنه تزوج حبيبته نهلة، ويَعدم مهند، ويهاجر عبدالله الشخصية التي تظهر وتختفي في العمل المشارك فيه، فقد بقي في بلده العراق فلا ملجأ له سوى العراق أو كما أسموه البدون سويسرا أم النخل.
لينقلنا بعد ذلك إلى لقائه بنهلة التي زارت حنان زوجة السارد العليم، الشخصية المشاركة والذي يقدم الشخصيات تارة، ويختفي ليظهر ثانية، ليتجاذبا أحاديث شتى، ليتفقا على زيارة المراقد المقدسة في كربلاء والنجف وليزورا قبر فهد المدفون في مقبرة وادي السلام، ثمة شعور انتاب احساس الشخصية الساردة وتراءى له بانه يرى مهند يقف على بعد خطوات منه يعاتبه لأنه لم يزر قبره حيث رسم له في مخيلته صورة مهند، وليقول (ماهي إلاّ خطوات فإذا بي وجهاً لوجه أمام من؟.. إنه مهند! بسحنته السمراء الداكنة ووجهه الناحل، يرمقني بعتب، لم يكن راضياً عني إذ أزور فهد قبله وأنا من كنت صديقه المقرب قبل أعوام مضت).. لينتهي الروائي يوسف هداي ميس بوضع نهاية للعبته الروائية المؤلمة والتي أدار خيوطها بنجاح للغته الشعرية البارعة، وبشخوصه الذين اجادوا في اداء أدوارهم، كل حسب شخصيته ومستواه الثقافي، فكانت لغته لغة القبول عند القارئ، لأنه من السهل الممتنع، لقد اجاد الكاتب الغوّار في أعماق شخصياته محللاً نفسياتهم، والنجاح الأكبر الذي حققه الكاتب هو انطاق الشخصيات، ومن خلال حواراتهم استعمال اللهجات الحية التي كانت تتداول بينهم، كاللهجة الكويتية أو اللبنانية أو غيرهما..
إن أصفاد الأوراق لم تكن عند الكاتب إلا مجموعة قوانين وضعت لتحدد من مسيرة الانسان وطموحاته وتقتل أحلامه، لاغيا فكرة ( أنا أفكر إذاً انا موجود) واضعاً بديلاً عنه ( أنا أتحرك ولكن تحكمني قيود)، تلك القيود التي قتلت الذات (ذات الإنسان) برغم وجوده لكنه قانون ميت، لأن الذات لا يحق لها عبور بوابة الحلم، فذات الانسان برغم وجوده لكنه ذات ميتة..
يقيناً أنها أول رواية عراقية كسرت طوق التقليد والاستنساخ واشتغلت خارج تركيبة المجتمع العراقي، اشتغلت على معاناة الآخر، وهو الذات الكويتية (فئة البدون) الذين يُنظَر إليهم على انهم ليسوا ابناء البلد الشرعيين، وقد أجاد الكاتب في تدوين ذلك الوجع، وقد أجاد أيضاً ووفق في ذلك استخدام أساليب (ضمير الأنا وتعدد الأصوات والميتا سرد)