نجاح السوق المالية ونجاعتها يتوقف على حركية البورصة وسيولتها
أرجع الدكتور الطاهر لطرش أستاذ المدرسة العليا للتجارة، عدم نمو وانتعاش السوق المالية في الجزائر كما يفترض إلى عوامل وصفها بالهيكلية، وأوضح أنّها تتعلق بتنظيم الاقتصاد وأدائه، وأخرى قال أنها تعود إلى أداء البورصة وما يطلق عليه بالسوق الثانوية يضاف إليها العوامل النفسية والسلوكية لأداء المستثمريين الماليين من مدخرين. ولم يخف أنّ المعاملات في بورصة الجزائر تعدّ شبه راكدة أي تتم بشكل أسبوعي، وهذا ما ينزع حسب تقديره الغرض الأساسي من وجود البورصة، والمتمثل في كثافة المعاملات بشكل يسمح للمستثمرين بتحقيق المكاسب المالية.
اعتبر الخبير المالي الطاهر لطرش أنّ السوق الأولية للسندات في الجزائر نشيطة بشكل نسبي، واعترف أنّها تعدّ أنشط بالنظر إلى العديد من نظيراتها في الدول التي قطعت أشواطا واسعة في عملية الإصلاح الاقتصادي، في إشارة منه إلى بعض دول أوروبا الشرقية.
واعترف الدكتور لطرش في سياق متصل أنّ السوق المالية للسندات أدّت نسبيا دورها كرافد للتمويل طويل الأجل لبعض الشركات الجزائرية (على غرار مجمع سوناطراك، وسونالغاز، وما إلى غير ذلك...). لكنّه أقر بالموازاة مع ذلك أنّ السوق المالية للأسهم تعرف ركودا كبيرا وتعتبر أهميتها في التمويل طويل الأجل ضئيلة جدا، غير مستبعد أنها جد رمزية...
وقدّم أستاذ المدرسة العليا للتجارة ة الطاهر لطرش عرضا مفصلا حول هيكلة السوق المالية في الجزائر، مؤكدا أنّها تنقسم إلى سوق أولية يتم فيها إصدار الأوراق المالية ويعني بذلك الأسهم والسندات لأول مرة، وسوق ثانوية أوضح أنه يتم فيها تبادل هذه الأوراق المالية المملوكة من طرف المستثمرين أو حملة هذه الأوراق، الذين سبق لهم شراؤها في السوق الأولية، وخلص إلى القول في هذا المقام أنها تمثل هذه السوق الثانوية ما يعرف بالبورصة.
البورصة جاءت للتمويل طويل المدى للاقتصاد
وتطرّق الدكتور لطرش إلى الظروف التي تم فيها إنشاء بورصة القيم المنقولة في الجزائر، وقال أنّ ميلادها تمّ مطلع عقد التسعينات، في خضم سياق الإصلاحات الاقتصادية التي باشرتها الجزائر، وفي ظرف يرى أن النظام البنكي كان يعيش ضائقة مالية حادة، لأنّ الاقتصاد الجزائري يعتبر اقتصاد مديونية، أي أن تمويل النشاط الاقتصادي يتم في الجوهرعبر قروض النظام البنكي.
وأضاف مشرحا مسار نشأة البورصة الجزائرية، بقوله أنّ إنشاء السوق المالية كان يندرج في إطار سياسة متوسطة وطويلة المدى غايتها جعل هذه السوق المالية خلال الأفق الزمني المتفق عليه، إطارا يساعد على التمويل طويل الأجل للاقتصاد، عن طريق تعبئة الادخار الوطني باستعمال أدوات مالية مناسبة ويتعلق الأمر بالأسهم والسندات. وبدأ متأكدا من أنّ كل ذلك من شأنه أن يعمل تدريجيا على التحول من نمط اقتصاد المديونية إلى نمط آخر يعتمد بشكل جوهري على الدور الذي تلعبه السوق المالية.
وفي ردّه على سؤال يتعلق بضعف تطور السوق المالية في الجزائر، أفاد أنّه يمكن إرجاع ذلك إلى ثلاثة عوامل في مقدمتها الأسباب الهيكلية المرتبطة بتنظيم الاقتصاد وأدائه، وأسباب ذكر أنّها مرتبطة بأداء السوق الثانوية، أو ما يصطلح عليها بالبورصة إلى جانب الأسباب النفسية والسلوكية المتصلة بأداء المستثمرين الماليين.
المؤسسات الخاصة يغلب عليها طابع الملكية العائلية
ومن خلال تفصيله للأسباب المتعلقة بتنظيم الاقتصاد، اعترف أنّ هيمنة المؤسسات العمومية على نسيج المؤسسات المؤهلة للدخول إلى السوق المالية جعل السوق المالية الأولية للأسهم شبه راكدة، على أساس أنّ إصدار الأسهم يتطلب فتح رأس مال هذه المؤسسات، مؤكدا أنّ القرار يتجاوز سلطات المؤسسات ويعود بالأساس إلى السلطات السياسية للبلد.
وذهب الخبير لطرش إلى أبعد من ذلك في تقديراته عندما بدا مقتنعا أن المؤسسات الخاصة في الجزائر، تعتبر في مجملها مؤسسات صغيرة أو متوسطة ويغلب عليها طابع الملكية العائلية، وهذا حسبه ما يجعل رؤوس أموالها مغلقة أمام المساهمة الخارجية.
ووصف المتحدث هذا العامل بالسبب المعقول لتفسير عدم لجوء هذه المؤسسات إلى السوق المالية سواء سوق الأسهم أو سوق السندات وذلك بغض النظر عن التجربة الناجحة المسجلة في السنوات الأخيرة من طرف المؤسسة الخاصة “أليانس ــ تأمينات” في إصدار أسهمها.
وتأسّف الأستاذ لطرش كون الطبيعة الصغيرة والمتوسطة لهذه المؤسسات تشكل عائقا هاما أمامها للدخول إلى سوق السندات، على اعتبار أنّ السوق المالية مخصصة مبدئيا للمؤسسات الكبيرة التي لها قدرات للاستجابة مع الشروط المفروضة على الإصدار، وهذا حسبه ما دفع إلى إطلاق مشروع لإصلاح وتطوير السوق المالية عبر إنشاء سوق مخصصة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والتي من شأنها أن تحرك الركود المسجل وتعيد الانتعاش المطلوب.
الأسواق المالية في حاجة إلى التنظيم والتقنين
وحول رؤيته لواقع السوق المالية الراهن، فإنّ هذه الأخيرة تخضع في تقديره إلى جرعة عالية من التنظيم والتقنين، بشكل يجعل المعاملات تخضع إلى درجة عالية من التحكم من طرف المتدخلين وقدرة عالية من قبلهم للقيام بعمليات مراجحة دقيقة بين مصادر التمويل من زاوية المكاسب والتكاليف المحتملة والقيود الضابطة لسلوكهم حسب كل خيار، ولم يخف في هذا المقام أن الشروط جد مقيدة في حالة اختيار اللجوء إلى السوق المالية بسبب الضعف التاريخي للأسواق في الجزائر كإطار يحدد السلوك الاقتصادي لهؤلاء الأعوان من جهة والضعف النسبي لهؤلاء في مجال التحكم في التقنية العالية التي يفرضها اللجوء إلى سوق تتميز بهذا القدر العالي من التنظيم والتقنين مثل السوق المالية.
أما فيما يتعلق بالأسباب الذاتية المرتبطة بأداء السوق المالية في مقطعها الثانوي، ويقصد بذلك البورصة، فسّر الخبير أنّ نجاح السوق المالية بأكملها ونجاعتها على المديين المتوسط والبعيد يتوقف بشكل أساسي على درجة النشاط في البورصة وسيولتها، على أساس أن ذلك يجعل الأفق الاقتصادي للأوراق المالية أو إمكانية البيع والشراء بسهولة، مناسبا ويشجع المدخرين على الإقدام على شراء الأوراق المالية في السوق الأولية.
ولم يخف أنّ المعاملات في بورصة الجزائر تعتبر شبه راكدة حيث تتم بشكل أسبوعي، وهذا مثلما أكد ما ينزع الغرض الأساسي من وجود البورصة، والمتمثل في كثافة المعاملات بشكل يسمح للمستثمرين بتحقيق المكاسب المالية.
غياب السيولة والانسيابية يجهض المكاسب
وفي تشريحه للوضع، ذكر أنّ ذلك يعدّ نقطة ضعف أساسية يحول دون تطور السوق المالية نظرا لفقدانها إلى مقومين جوهريين من مقومات النجاعة، ويقصد بذلك سيولة السوق وانسيابيتها الزمنية من جهة وفقدان الفرص الاقتصادية الفعلية لتحقيق المكاسب المالية.
وخلص إلى القول في هذا المقام أن طائفة الأسباب النفسية والسلوكية للمتدخلين في السوق المالية، لاسيما المستثمرين سواء كانوا أفرادا أو مستثمرين مؤسسيين تصنف أخيرا.
وخلال تشريحه لنجاعة السوق المالية في الجزائر، ذكر الخبير أنّها تصنّف ضمن أعلى مراتب التنظيم في مجال الأسواق، واعتبر أنّ الدخول إليها يتطلّب درجة عالية من التفاعل البيني، لكنه وصف التجربة الجزائرية بالحديثة جدا في هذا المجال خاصة وأن الجزائر ــ أضاف مؤكدا ــ خرجت مؤخرا من تنظيم اقتصادي متناهي في المركزية والبيروقراطية عمل بشكل كلي على تحييد أي دور للأسواق في اتخاذ القرارات الاقتصادية، كما اعتبر أنّ جل الأعوان الاقتصاديين العاملين في الساحة نتاج هذه المنظومة المذهبية والتنظيمية للاقتصاد، وهذا حسب اعتقاده ما صعب من التحول السلوكي والأدائي في ممارسة النشاط الاقتصادي وتناول القرارات الاقتصادية، كما يضعف من قدراتهم في إجراء اختيارات اقتصادية تقوم على أساس حساب اقتصادي غاية في الدقة والحساسية. ولذلك يتوقّع أن تبقى سلوكات وتصرفات هؤلاء الأعوان الاقتصاديين تخضع بشكل أكبر إلى منطق اقتصاد المديونية، وتأبى أن تنخرط بشكل حاسم في منطق اقتصاد الأسواق المالية.
واغتنم الفرصة ليطرح مذكرا التجربة التاريخية الفاشلة لسهم “الرياض ــ سطيف”، الذي أسفر عن آثار سلبية على علاقة الأفراد مع السوق المالية.