يشخص الدكتور أحميـة سليمان مختص في قانون العمل وأستاذ بكلية الحقوق (جامعة الجزائر1) في حوار أدلى به لـ “الشعب الاقتصادي” عشية عيد العمال، مكاسب وتحديات عالم الشغل ويقف عند التحولات التشريعية ذات الصلة منها قانون العمل الجديد الذي يتوقع أن يعرف جدلا مما يرشح صدوره بأمر تشريعي. كما يناقش سوق العمالة المحلية وانعكاسات استيراد اليد العاملة الأجنبية ليؤكد أهمية تعميق الحوار الاجتماعي بين الشركاء وفقا لمعادلة تكافؤ المراكز القانونية والاقتصادية، وهي معادلة لا تزال معرضة لخلل نتيجة تراجع التأثير النقابي للعمال أمام ارتفاع تأثير نقابات المستخدمين، داعيا الى اعتماد العمل المنتج للثروة والقيمة المضافة كخيار للإفلات من تداعيات أزمة تراجع موارد المحروقات، وفيما يلي الحوار كاملا:
الشعب الاقتصادي: هل يفي قانون العمل بمعالجة قضايا وإفرازات عالم الشغل، ولماذا لم يصدر القانون الجديد المتعلق بعلاقات العمل؟
❊❊الدكتور أحميـة سليمان: في البداية إسمحوا لي أن أشكر جريدة “الشعب” على اهتمامها بعالم الشغل وقضايا العمل والعمال، لاسيما بمناسبة اليوم العالمي للعمال، كما أشكركم على إتاحتي الفرصة للمشاركة في ملف عالم الشغل في الجزائر، خاصة في ظلّ التحديات الاقتصادية والمالية والتكنولوجية الداخلية والخارجية التي أصبحت تواجهها المؤسسات الاقتصادية العامة والخاصة الوطنية وعمالها.
بالنسبة للشق الأول من السؤال، أعتقد أن تجاوز قانون علاقات العمل الحالي والقوانين المرافقة له (قوانين تسوية النزاعات الفردية والجماعية، والقانون المتعلق بمفتشية العمل، وقانون كيفيات ممارسة الحق النقابي) لأكثر من ربع قرن عن صدوره سنة 1990، ورغم أنه قانون إطار لعلاقات العمل يعتمد على ترك هامش واسع للقانون الاتفاقي بين الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين (أي الاتفاقيات والاتفاقات الجماعية للعمل) قد أصبح قانونا تجاوزه الزمن، أصبح عاجزاً عن التصدي للمستجدات التي أفرزتها هذه الحقبة الطويلة نسبياً من الزمن، ذلك أن قانون علاقات العمل قانون حي وديناميكي يستوجب التحديث المستمر لمواجهة كل المستجدات التي يفرضها الواقع الميداني وعدم تحينه وتحديثه بصورة مستمرة ومتماشية مع إفرازات الواقع الميداني يجعله قانونا شبه ميت عاجز عن التفاعل والتأثير في الواقع العملي. وهو ما تعكسه التحركات العمالية والاجتماعية في العديد من المؤسسات في السنوات الأخيرة. ويكفي أن نشير إلى ثلاثة أمثلة بارزة لعجز هذا القانون في تأطير بعض الممارسات الميدانية، الأول يتمثل في عدم قدرة القانون الحالي، والإدارة المشرفة على تطبيقه في التحكم في اللجوء إلى عقود العمل المحددة المدة التي بالرغم من نصّ القانون صراحة على تقييدها وجعلها حالات استثنائية في ظروف معينة، فقد أصبحت المؤسسات العامة والخاصة تمارسها وتطبقها وكأنها القاعدة وليس الاستثناء، أمام مرأى ومسمع كافة الهيئات الإدارية والقضائية التي أصبحت عاجزة عن التصدي لهذه الممارسات الكثيرة، الأمر الذي كرّس عدم جدوى النصوص المقيدة لهذا النوع من العقود ( أي المادتين 12 و12 مكرر من قانون علاقات العمل لسنة 1990). أما المثال الثاني، فيتعلق بمنافسة اليد العاملة الأجنبية لليد العاملة الوطنية، فبالرغم من أن القانون المنظم للعمالة الأجنبية في الجزائر (هو أيضاً قانون قديم تجاوزته الأحداث يرجع إلى بداية الثمانينات) يجعل من اللجوء إلى هذه العمالة أمراً استثنائياً جداً، إلا أن الواقع الميداني يبين مدى عجزه في تطبيق هذا المبدأ، فنجد عديد المؤسسات الأجنبية الفائزة بصفقات المشاريع الكبرى في مختلف المجالات تجلب أعدادا معتبرة من اليد العاملة للقيام بالأعمال اليدوية ومختلف الأشغال التي لا تتطلب مؤهلات مفقودة في الوطن كما ينص القانون على ذلك. وخير شاهد على هذه الممارسات ما هو موجود في المشاريع التي فازت بها المؤسسات الصينية والتركية وغيرها، مقابل تواجد عمالة وطنية تعاني البطالة رغم التدخلات العديدة للهيئات العليا للبلاد للحد من هذه الظاهرة إلا جل هذه التدخلات تبقى دون جدوى، أمام إصرار مسيري المؤسسات وبعض المسؤولين في الميدان على تزايد اللجوء إلى اليد العاملة الأجنبية بحجج واهية، مثل الإسراع في الإنجاز تارة، وعدم وجود يد عاملة وطنية تارة أخرى، على غرار ما هو واقع في قطاع الأشغال العمومية والبناء. والثالث هو عجز الآليات المهنية لتسوية النزاعات الفردية والجماعية، والتي لم يتم تكييفها مع خصوصيات ومتطلبات النزاعات المهنية، ونقصد بذلك عدم فاعلية مكاتب المصالحة المكلفة بمعالجة النزاعات الفردية والتي تتواجد على مستوى مفتشيات العمل، وهو ما تشهد عليه الأعداد المتزايدة للنزاعات الفردية التي تصل إلى المحاكم الاجتماعية، ويعود هذا إلى جملة أسباب موضوعية وشخصية، منها ضعف (إذا لم نقل انعدام) التكوين القانوني والمهني لأعضاء هذه المكاتب، وعدم تخصيص فترات تكوين دورية لهم في مؤسسات التكوين المتخصصة. كما أن تواجد هذه المكاتب في مقرات مفتشيات العمل، وعدم وضوح العلاقة بين أعضائها من جهة، ومفتش العمل من جهة ثانية، قد جعل فاعليتها ضعيفة في معالجة القضايا المطروحة عليها، ومن المستحسن وضعها على مستوى المحاكم الابتدائية مع ضرورة توضيح العلاقة المهنية والوظيفية بين هذا المكاتب والمحكمة، مما يعطي عملها أكثر فاعلية ومصداقية لدى المتنازعين، من جهة ويعطي قراراتها واتفاقاتها أكثر قابلية للتطبيق الميداني. على خلاف ما هو موجود حالياً. كما ينبغي مراجعة الآليات والإجراءات المهنية الخاصة بتسوية النزاعات الجماعية، لاسيما إجراء الوساطة، والتحكيم بوضع تنظيمات خاصة بها تحل محل التنظيم الحالي الذي أفقدها الفاعلية والتطبيق الميداني، حيث نسجّل في الوقت الحالي شبه غياب تام لتفعيل آليات الوساطة والتحكيم اللذان ينص عليهما قانون تسوية منازعات العمل (القانون 90 ـ 02 المؤرخ في 06 فيفري 1990)، وذلك بسبب غموض النصوص المنظمة لهما، وعدم توفر الشركاء الاجتماعيين على ثقافة التسوية المهنية للنزاعات الجماعية، وهو ما تشهد عليه حركات الإضراب العديدة التي يقوم بها العمال، والتي كثيراً ما توصف بغير القانونية، وهذا راجع كذلك إلى نقص وانعدام الثقافة القانونية لدى الممثلين النقابيين لاسيما فيما يتعلق بالنصوص القانونية المنظمة لكيفيات الممارسة الشرعية لحق الإضراب.
أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال، فإن الأمثلة السابقة وغيرها مما لا يتسع المجال لذكره هنا، تجعل من ضرورة الإسراع بمراجعة القانون الحالي أمراً مستعجلاً جدا، إلا أنه ورغم شعور السلطات العمومية بذلك، والشروع في وضع مشروع تقنين عمل جديد منذ مدة طويلة، إلا أنها لم تتمكن من تجاوز الخلافات الجوهرية أحياناً، والإجرائية أو الشكلية، أحياناً أخرى، التي ظهرت عند مناقشة مضمون هذا المشروع من طرف الشركاء الاجتماعيين الذين يدافعون عن المحافظة على المكاسب المهنية والاجتماعية لاسيما ما تعلّق بضمان الاستقرار المهني للعمال، وممثلي المؤسسات المستخدمة الذين يطالبون بالمزيد من المرونة في أحكام القانون الجديد لاسيما ما يتعلق باللجوء إلى العمل المؤقت، وتحرير عقود العمل من أية قيود قد تحد من توفير المزيد من المرونة في هذه العلاقات، الأمر الذي يلاقي رفضاً شديداً من المنظمات النقابية. إلى جانب الضغوط التي أصبح يفرضها المناخ الاقتصادي الداخلي والدولي، لاسيما من خلال فتح مجال الاستثمار للرأسمال الأجنبي للاستقرار في الجزائر، وإقامة مشاريع إنتاجية بدلاً من الاقتصار على استيراد المنتجات الكاملة الصنع، وبالتالي إنتاج القيمة المضافة للإنتاج الوطني بدلاً من الإبقاء على السوق الوطنية مجرد سوق لاستهلاك المنتوج المستورد في صورته النهائية. كل هذه العوامل، إلى جانب عدة أسباب أخرى لا يتسع المجال للخوض فيها هنا، كان وراء تأخير التوصل إلى صيغة مقبولة من كافة الأطراف الاقتصادية والاجتماعية، الوطنية منها والأجنبية، من جهة والسلطات العمومية من جهة ثانية. وأعتقد بالنظر إلى صعوبة التوفيق بين المطالب الاجتماعية، والضغوطات الاقتصادية، ونظراً لصعوبة الوصول إلى صيغة مقبولة تحقق مصالح الجميع، وبالنظر إلى النقاش الحاد الذي ينظر وقوعه في البرلمان بغرفتيه حول مضمون مشروع هذا القانون، وأعتقد أن السلطات العمومية سوف تقوم بإصدار هذا القانون عن طريق أمر تشريعي، سوف تتخذه بين دورتي البرلمان على غرار ما وقع مع الأمر المتعلق بقانون الوظيفة العامة سنة 2006.
كيف تشخّص عالم الشغل اليوم وما هي التحديات التي تفرض نفسها على المشهد من حيث علاقات العمل والنزاعات؟
❊❊ يتميز عالم الشغل في الوقت الحالي بعدة مظاهر سلبية يمكن ذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر نظراً لكثرتها وتنوعها:
ـ طابع الهشاشة الذي يطغى على علاقات العمل بسبب الإفراط في اللجوء إلى علاقات العمل المحددة المدة في غياب أو عدم فاعلية الرقابة التي من المفروض أن تحد من هذه الظاهرة، هذه الممارسات التي تقوم بها المؤسسات في مختلف القطاعات الإنتاجية والخدماتية.
ـ اعتماد السلطات العمومية على أنماط تشغيل خارج مجال تغطية أحكام قانون العمل، وهي كلها عقود عمل مؤقتة تحت تسميات متعددة في إطار سياسات تشغيل مستعجلة من اجل امتصاص البطالة، لاسيما في أوساط الشباب بما فيهم ذوي المؤهلات الجامعية، هؤلاء الشباب الذين يعانون نوع من الاستغلال من قبل الهيئات والمؤسسات المستخدمة.
ـ ظهور شركات المناولة التي أصبحت تشكل إطاراً رسمياً للتشغيل رغم ما تقوم به من تصرفات غير قانونية، وما تمارسه من استغلال للعمال الذين تشغلهم، حيث كثيراً ما يتجاوز الفارق الذي تحصل عليه من المؤسسات التي تستفيد من خدمات عمالها وما يتقاضاه هؤلاء العمال الأضعاف المضاعفة من الأجور.
ـ المنافسة غير القانونية وغير الشرعية للعمالة الأجنبية للعمالة الوطنية، وذلك في ظلّ صمت من قبل الهيئات والمؤسسات العمومية المحلية والمركزية، بحجج واهية على النحو الذي سبق ذكره من قبل.
ـ عدم فاعلية الآليات المختلفة التي وضعتها السلطات العمومية للتشغيل والتقليص من البطالة لاسيما في صفوف الشباب بصفة عامة، والشباب المتخرج من المعاهد والجامعات. حيث يشهد على ذلك ضعف استيعاب المؤسسات المصغرة التي تم إنشاؤها في إطار هيئات تمويل مشاريع الشباب (الوكالة الوطنية لتشغيل الشباب، الصندوق الوطني للبطالة...الخ) للأعداد الكبيرة من الشباب الباحث عن العمل، وذلك بسبب صعوبة استمرار هذه المؤسسات في العمل بسبب منافسة المنتجات المستوردة للمنتجات التي تنتجها هذه المؤسسات تارة، وبسبب سوء تسيير البعض منها نظراً لعدم متابعة وتأطير أصحابها، مما أدى إلى إفلاس وحل العديد منها، ومتابعة أصحابها من قبل البنوك بسبب ديون القروض المترتبة عليهم والتي لم يتمكنوا من تسديدها.
ـ عدم التزام المؤسسات الاقتصادية بالتعهدات التي التزمت بها بمقتضى العقد الاجتماعي المبرم بينها وبين الشركاء الاجتماعيين والسلطات العمومية بضمان الاستقرار المهني للعمال، وذلك بسبب تعرض الكثير منها لضغوطات وتحديات مالية وتجارية وتكنولوجية داخلية وخارجية نتيجة الاختلالات التي تعرفها المنظومة الاقتصادية والمالية والتجارية على المستويين الداخلي والخارجي. وهو ما يظهر من خلال ضعف عروض العمل المقدمة من قبل هذه المؤسسات، التي أصبحت عاجزة عن تحقيق الاستقرار الهيكلي والاقتصادي والمالي، وبالتالي تحقيق النمو والتطور والتوسع ومنه تحقيق القدرة على المزيد من خلق مناصب العمل.
إن هذا المشهد يجعل وضع العمال في حالة عدم استقرار مهني واجتماعي دائم، مما ينتج عنه توترات وصراعات نفسية واجتماعية دائمة بين العمال والمؤسسات المستخدمة من جهة. وبين هؤلاء العمال ومنظماتهم النقابية التي كثيراً ما تكون عاجزة عن صيانة حقوقهم المهنية والاجتماعية المكتسبة من جهة ثانية. وهو الواقع الذي تشهد عليه كثرة النزاعات الجماعية التي كثيراً ما تصطدم بإصرار المؤسسات المستخدمة على مواقفها، في غياب روح الحوار والتشاور، إلى جانب ضعف فاعلية الآليات المهنية لتسوية النزاعات الجماعية المصالحة،الوساطة والتحكيم) على النحو الذي سبق الإشارة إليه أعلاه .
توجد جملة من المكاسب الاجتماعية والمهنية التي حققها العامل الجزائري، ما مدى قدرة المؤسسات في الحفاظ عليها، وما هي شروط ذلك؟
❊❊ لا أعتقد أنه من السهل المحافظة على المكاسب الاجتماعية والمهنية التي حققها العمال في أثناء فترة الرخاء الاقتصادي بالنظر للأزمات الاقتصادية والمالية المتلاحقة والمتعددة الأشكال. وترجع هذه الصعوبة إلى عوامل منها مثلا:
ـ تغير آليات تسيير علاقات العمل في الوقت الراهن، بالنظر إلى الفترة السابقة التي عرفت تحقيق هذه المكاسب (فترة ما قبل التسعينات)، حيث كانت علاقات العمل تسير بمقتضى قوانين تجعل الدولة هي المشغل وهي المسير لهذه العلاقات المهنية والاجتماعية، بينما أصبحت العلاقات المهنية تتم اليوم في إطار قانون يمنح طرفي علاقة العمل (العامل والمؤسسة المستخدمة) حرية كبيرة في الاتفاق على أحكام هذه العلاقة، سواء في إطار العلاقات الفردية أو الجماعية، ولما كانت المراكز الاقتصادية غير متكافئة بين الطرفين من غير الممكن للعامل، بل ولجميع العمال الوقوف في وجه المؤسسات المستخدمة للدفاع عن المكاسب الاجتماعية والمهنية في وضع يتسم بالهشاشة، منافسة اليد العاملة الأجنبية، الركود الاقتصادي والأزمات الهيكلية والمالية والتجارية للمؤسسات المستخدمة، مما يحتم على العمال وممثليهم النقابيين مضطرين للتضحية ببعض الامتيازات والحقوق المكتسبة من أجل الحفاظ على الأقل على مناصب العمل.
ـ ضعف التنظيمات النقابية التي أصبحت تتنافس على الزعامات وأشياء أخرى، بدل الدفاع عن مناصب العمل، ويشهد على ذلك فشل كل محاولات إقامة تكتلات نقابية بحكم قناعتها أن في الاتحاد قوة، إلا أن ضعف الوعي النقابي، وحب الزعامة وعدم الاستعداد للتضحية بالمصالح الشخصية الضيقة في سبيل تحقيق المصالح العامة التي تمثلها أفشل كل محاولة لتشكيل منظمة نقابية قوية يمكنها الوقوف في وجه منظمات أصحاب العمل التي فهمت الدرس جيداً وتكتلت في شكل منتدى رؤساء المؤسسات الذي أصبح يشكل وزناً اقتصادياً.
ـ عدم قدرة القوانين الاجتماعية الحالية على فرض أحكامها في الميدان، نظراً لضعف الرقابة الإدارية والقضائية على تطبيق هذه القوانين، ولضعف ورمزية الجزاءات والعقوبات على المخالفين لها. بدليل الأعداد المعتبرة لمحاضر مفتشيات العمل، والأحكام القضائية في مختلف مستوياتها بقيت حبراً على ورق، لاسيما في مجال التعويض عن التسريح التعسفي، إعادة الإدماج، المساس بصحة العمال، عدم التقيد بالإجراءات الوقائية والأمنية في أماكن العمل أو اللجوء إلى إبرام عقود عمل مخالفة للقوانين والنصوص المعمول بها.
ـ شبح تزايد حدّة البطالة لارتفاع أعداد القادمين إلى سوق الشغل مقابل ضعف عروض العمل بسبب ما سبق الإشارة إليه من الصعوبات الاقتصادية والمالية للمؤسسات المستخدمة، وانفتاح السوق الوطني على مختلف السلع والخدمات المستوردة على حساب المنتوج الوطني، إلى جانب اهتمام الدولة بالدرجة الأولى بالحد من تزايد البطالة ولو باعتماد آليات تشغيل هشة ومؤقتة لا تضمن الاستقرار المهني ناهيك عن السهر على حماية وصيانة الحقوق المكتسبة للعمال.
الحوار الاجتماعي ضمانة لاستقرار عالم الشغل، كيف يمكن للنقابات في ظلّ التعددية المساهمة في حماية حقوق العامل خاصة مع تواجد متعاملين أجانب؟
❊❊ صحيح، يشكل الحوار الاجتماعي أحد الضمانات الأساسية لاستقرار عالم الشغل، لكن عندما يتم هذا الحوار بين أطراف متكافئة في المراكز الاقتصادية، ومن قبل نقابات ذات نسب انخراط عالية بين العمال فيكون لها تأثيراً في القرار الاقتصادي. لكن الملاحظ في الواقع كثرة التنظيمات النقابية، لكنها دون فاعلية ودون تأثير بدليل أن تمثيل العمال على مستوى الثلاثية يتم فقط من قبل الاتحاد العام للعمال الجزائريين، نظراً لعدم وجود أي تنظيم أو تكتل نقابي يحوز على نسبة التمثيل المطلوبة في هذا المستوى الأعلى من التفاوض.
وحتى على المستوى القطاعي نلاحظ ضعف الحوار بين الشركاء الاجتماعيين والاقتصاديين، نظراً لضعف التمثيل النقابي على مستوى القطاعات الاقتصادية، وحتى على مستوى المؤسسات، ولذلك نعتقد أن الأمر أصبح يتجه نحو تراجع التأثير النقابي العمالي، مقابل تنامي التأثير النقابي لأصحاب العمل في القرارات الاقتصادية الإستراتيجية والهامة، الأمر الذي كثيراً ما يحرج السلطات العمومية عند وقوع بعض النزاعات بين الأطراف الاجتماعية والاقتصادية حول بعض المكاسب أو الامتيازات المهنية المادية منها والاجتماعية، نظراً لأن قواعد اللعبة الحالية (العلاقات التعاقدية الحرة لعلاقات العمل الخاضعة للقانون الخاص) لا تسمح للدولة بالتدخل لصالح العمال إلا إذا ثبت خرق لقوانين الجمهورية. وهو ما يفسّر تعقيد العديد من النزاعات التي قامت في بعض القطاعات بسبب عدم استعداد أطراف الحوار وعدم قبولهم بالتضحية ببعض المكاسب أو الامتيازات بهدف التوصل إلى حلول لهذه النزاعات التي تطورت أحيانا إلى أزمات مسّت ببعض حاجيات المواطنين الضرورية. أما بالنسبة لوجود المؤسسات الأجنبية في النسيج الاقتصادي، فالأمر أكثر تعقيدا كون المؤسسات الأجنبية لا تعترف بالتمثيل النقابي، ولا تسمح بإقامة خلايا نقابية في ورشاتها ووحداتها، ولم تجد من يفرض عليها تطبيق القانون المتعلق بكيفيات ممارسة الحق النقابي، كما أن معظم هذه المؤسسات تشغل نسبة كبيرة من اليد العاملة الأجنبية، وهذه الأخيرة لا يسمح لها القانون الوطني بممارسة الحق النقابي، الأمر الذي خدم مصالح مسيري المؤسسات الأجنبية ودعم مواقفها من منع النشاط النقابي داخل وحداتها، فعن أي حوار اجتماعي نتحدث هنا؟.
ما هي التحديات الراهنة والمستقبلية لعالم الشغل في ظلّ تغير المؤشرات المالية بالنظر لانهيار أسعار المحروقات مما يهدّد الجبهة الاجتماعية على الأقل في المديين المتوسط والبعيد؟
❊❊ لا أعتقد أن الجبهة الاجتماعية كانت مهدّدة كما هو الحال اليوم، فهي ظلت إلى أجل قريب تعيش من خيرات هذا الوطن ليس بمقتضى ما حصلت عليه من مكاسب نتيجة تفاوض أو اتفاق بينها وبين المؤسسات المستخدمة في إطار حوار متكافئ أنتج اتفاقات منحت العمال ما كانوا يتمتعون من مكاسب اجتماعية ومادية ومهنية، إنما نتيجة قرارات أصدرتها السلطات العمومية في البلاد، وذلك ضمن إعادة توزيع الثروة الوطنية عندما كانت مداخيل البترول والغاز مرتفعة وكافية، ويشهد على ذلك مختلف قرارات الزيادات التي عرفتها منظومة الأجور ومختلف التعويضات، والتي جاءت كلها بقرارات من السلطة العامة، أو على الأقل بتأثير أو ضغط مباشر منها. لهذا اعتقد أن الخطر اليوم على الجبهة الاجتماعية كبير جداً، مع تراجع الموارد، واعتماد سياسات التقشف الحتمية، لذلك لابد من إعادة الاعتبار للعمل والاستثمار فيه، مع تشجيع العمل المنتج للثروة والقيمة المضافة، وليس للعمل السلبي الذي لا إنتاج من ورائه، ولا قيمة مضافة ناتجة عنه. وأعني أنه على العمال بصفة عامة، والعمال الشباب خاصة، من ذوي المؤهلات العليا أو الذين دونها التوجه للعمل في القطاعات المنتجة للثروة، وهي قطاعات تعاني من عزوف اليد العاملة، مثل الفلاحة، الصناعة التقليدية، الأشغال العمومية والبناء والسياحة، فمن جهة تفتقر لليد العاملة مما جعل السلطات العمومية تغض الطرف عن المؤسسات التي تستعين بعمال أجانب فيها، ومن جهة أخرى نواجه تحدي التقليص من البطالة لاسيما لدى الشباب الذين بإمكانهم العمل في هذه القطاعات بدل تفضيلهم لنشاطات الربح السهل مثل الحراسة، أعوان الأمن، وحراسة السيارات، وهي نشاطات دون مردودية اقتصادية.
لهذا ليست هناك وصفة سحرية للخروج من الأزمة التي أنتجها تراجع الموارد البترولية، بل أن الحل يكمن في إعادة الاعتبار للعمل المنتج للقيمة الاقتصادية المضافة، إعادة الاعتبار للعمل الذي يخلصنا من الاستيراد الفاحش في الوقت الذي نملك كل مقومات البلد الذي بإمكانه توفير الاكتفاء الذاتي من المنتجات الفلاحة، بناء السكن، المدارس والجامعات، المستشفيات والمنشآت القاعدية بيد عاملة محلية. وبالسياحة فقط يمكن تصحيح المعادلة بتوفير أحسن المرافق وترقية الخدمات لتمكين المواطن من قضاء وقته في بلاده بدلاً من صرف أمواله بالعملة الصعبة في بلدان هي أقل منا معالم سياحية، لكنها تملك شعوباً تقدر خدمة الآخر ومن هنا يبدأ انجاز التحدي البديل للمحروقات.