من المقرر أن تشهد المرحلة القادمة من التسيير الاقتصادي والمالي للبلاد وضع مخطط خماسي آخر هو الثاني من نوعه على التوالي، بعد أن يكاد البرنامج الخماسي الأول يشرف على نهايته في الأشهر القادمة، وما تضمّنه من مشاريع ضخمة رصدت لها خزينة الدولة أكثر من 286 مليار دولار. مبلغ ضخم جدا وإنفاق عمومي قياسي عرفته المرحلة السابقة، وتحتاج إلى تقييم صارم وموضوعي عن مدى مطابقة وتيرة إنجاز المشاريع مع الانفاق الكبير المخصّص لها
المخطّط الخماسي الثاني الذي يعدّ امتدادا لمخططات سابقة أدرجت فيه عدة مشاريع كبرى أخرى، وبتمويل مالي قد لن يكون أقل من المخصّصات المالية المتضمّنة في البرنامج الخماسي الأول، وذلك بغرض بعث أسس اقتصاد بديل يكون قادرا على تلبية الحاجيات الأساسية والملحة للمواطنين وفي مقدمتهم فئة الشباب، وما يمكن توفيره من مناصب شغل حقيقية ودائمة من خلال رفع مستوى الاستثمار الذي ما فتئ يتطور من سنة إلى أخرى منتقلا من 7700 مشروع في سنة 2012 إلى 8895 في سنة 2013 وبقيمة مالية انتقلت من 816 مليار دينار إلى 1716 مليار دينار سمحت برفع عدد مناصب الشغل من 91 ألف إلى 150 ألف، أي بزيادة تقدر بنسبة 63 في المائة خلال نفس الفترة.
ومن ناحية الاستثمارات الأجنبية، فإنّ الأرقام الرسمية تشير إلى ارتفاع عددها من 17 فقط إلى 65، بقيمة إجمالية ارتفعت من 41 مليار دينار إلى 332 مليار بعد أن تراجعت قبل ذلك على نحو محسوس قدّرته ندوة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “الكنوسيد” بنسبة 42 في المائة،
وكان في سياق التراجع الدولي العام الذي عرفته آنذاك الاستثمارات الأجنبية المباشرة قبل أن تتطور في السنة الماضية.
وبالنظر إلى أهمية الاستثمار في القطاع الصناعي ودوره في رفع مستوى التنمية الحقيقية وتوفير مناصب الشغل الدائمة، فقد كان نصيبه وفيرا من حيث المخصصات المالية والاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة تناهز 60 في المائة
وفي فروع حيوية على غرار فرع الميكانيك والشراكة المبرمة مع كل من ألمانيا والإمارات، والحديد و الصلب مع كل من تركيا و قطر، واستثمارات أخرى في قطاع الدواء
والصناعات الغذائية، فضلا على قطاع البناء والأشغال العمومية الذي نال نصيبه من الاستثمار بنسبة 11 في المائة، وبشراكة أخرى مع الصين في مواد البناء من أجل المساهمة في توفيرها تلبية لاحتياجات الورشات الضخمة
وخاصة في قطاع السكن الذي عرف توسعا كبيرا في الاستثمار، وفي حجم السكنات التي على الحكومة إنجازها في إطار مختلف الصيغ المقترحة على المواطنين.
وفي هذا الصدد، قرّرت وزارة السكن برمجة إنجاز ما لا يقل عن 1,6 مليون وحدة سكنية بتكلفة مالية قدرت بـ 4500 مليار دينار ضمنتها في المخطط الخماسي القادم،
ويشمل جميع الصيغ المقترحة في إطار مواجهة مشكل السكن، الذي كان ولا يزال من أبرز الانشغالات المطروحة على الحكومة والمواطنين على حد سواء مما حذا بالأولى إلى التكفل به بصفة استثنائية وعاجلة، وتسخير كافة الامكانيات المتاحة للقضاء عليه، وكان من بين أحد المحاور الأساسية في الوعود المقدمة في الحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة، حيث تعهّد أحد منشطّيها بأن تشهد السنوات القليلة القادمة نهاية أزمة السكن في الجزائر.
عهدة رابعة للرئيس الحالي تعني أنّ الحكومة سائرة على نفس النهج الراهن من حيث الخيارات والتوجهات الاقتصادية والمالية، التي فيها وما عليها من انتقادات ولكن أيضا من مكاسب أبرزها والتي لا تزال تمثل الخيار الأنجع، وهي المحافظة على مديونية خارجية في مستويات متدنية قياسية ودون الأربعة مليار دولار أهّلتها بأن تصنّف من بين العشرين دولة الأقل مديونية في منطقة “المينا”، أي الشرق الأوسط و الشمال الإفريقي وتعادل مديونية الجزائر الخارجية ما نسبته 2,4 في المائة فقط من الناتج الداخلي الخام مقابل 23 في المائة كمتوسط في نفس المنطقة.
غير أنّ الجزائر لم تتوقّف عند حد تسديد مستحقاتها المالية تجاه مقرضيها في إطار نادي باريس ونادي لندن، بل تحوّلت من دولة مدينة إلى دولة دائنة في إطار القرض الممنوح لصندوق النقد الدولي قبل أكثر من سنة، والمقدر بخمسة مليار دولار. والأكثر من هذا فقد لجأت الجزائر
وفي إطار المساهمة في التضامن الدولي مع الدول الصديقة والشقيقة التي تعاني مصاعب في التمويل، لجأت إلى محو ديون العديد من الدول الافريقية والعربية تجاهها والمقدرة بأربعة عشرة دولة قاربت في مجملها مليار دولار.
المحافظة على مستويات متدنية وتاريخية للمديونية مثلما يفضّل محافظ بنك الجزائر وصفها تعدّ إنجازا تمّ تحقيقه بفضل الوفرة المالية للجزائر المتأتية من مداخيل المحروقات وليس من النمو الاقتصادي الناجم عن الاستثمارات المنتجة، وتفعيل الاستثمار باستمرار مرده الإنفاق العمومي المتزايد الذي بلغ بدوره مستويات قياسية، ولكن من حيث المبالغ المالية الضخمة التي يتم تخصيصها سنويا لتمويل مشاريع التنمية دون أن يتم تقييمها من حيث الكلفة الحقيقية للإنجاز التي عادة ما تفوق المخصص لها مما يطرح في كل مرة تساؤلات حول مردودية هذه المشاريع ومدى إنتاجيتها، وهو المشكل الاقتصادي العويص الذي تواجهه الحكومة في عملية تقييم الإنفاق العمومي، الأمر الذي حذا بالمؤسسات المالية الدولية على غرار صندوق النقد الدولي إلى توجيه سلسلة من التحذيرات للطرف الجزائري من أن الاستمرار في هكذا إنفاق قد يؤدي في نهاية المطاف وفي السنوات القادمة إلى الوقوع مجدّدا في فخّ المديونية.
لا يمكن لأحد أن يتغاضى عن التحولات التي تشهدها الجزائر اقتصاديا واجتماعيا، وما يمكن أن يبذل في إطار تحقيق النمو الاقتصادي والحصول على المزيد من المكاسب لكنها تظل دون المستوى المطلوب بالنظر إلى ما تتوفر عليه الجزائر من قدرات هائلة، وبالنظر أيضا إلى النقائص التي لا تزال تميز الكثير من القطاعات والاختلالات الاقتصادية،
وأبرزها صعوبة قلب المعادلة الصعبة من حيث استمرار التبعية للمحروقات في تمويل كل شيء، واستحالة تنظيم السوق الوطنية مع وجود سوق موازية متنامية وانتشار الفساد، وهو المحور الأساسي الآخر الذي تعهّد الرئيس بوتفليقة بالقضاء عليه إذا زكّاه الشعب لعهدة رابعة قيل عنها أنّها ستكون البداية لعهد جديد ترتب فيه الأولويات وفقا للاحتياجات الأساسية في إطار التحديث والرفع من النمو الاقتصادي، وتحقيق التنمية الشاملة والحد من التبعية من خلال رفع القدرات الإنتاجية للقطاعات التي لا تزال عاجزة عن مواجهة الطلب الداخلي، وفي كثير من المجالات.