يتجاوز النقاش حول التشغيل مرحلة التشخيص للبحث في مختلف جوانبه المرتبطة بالمحيط، ولتسليط الضوء أكثر عليها يقدّم الدكتور في الاقتصاد حشماوي محمد تصوّره لأسباب وجود مناصب شاغرة في الإدارة وعلاقة التوظيف بالاستثمار، والدور الذي تقوم به آليات التشغيل، وفيما يلي مضمون الحوار.
❊ الشعب: تمّ الإعلان قبل أيام عن وجود مناصب عمل شاغرة في دواليب الإدارة، ما هي الأسباب وكيف يمكن معالجتها؟
❊❊ الدكتور محمد حشماوي: ليس المرة الأولى التي تبقى فيها مناصب مالية غير مستغلّة بالإدارات العمومية، لكن سبب ظهور هذه المناصب للعلن هو تعليمة الوزير الأول الموجّهة للإدارات، تطلب منها استغلال كل المناصب الشاغرة في 10 مارس من السنة الجارية، وأسباب بقاء هذه المناصب شاغرة تعود برأيي إلى:
ـ التقديرات غير الواقعية أو الخاطئة في تحديد الاحتجاجات بسبب غياب وظيفة إدارة الموارد البشرية بالإدارة.
ـ الإجراءات الإدارية الثقيلة والمعقدة للتوظيف وتضارب تقييم أهداف التوظيف بين الإدارة المعنية وإدارة التوظيف العمومي، الأمر الذي يحول دون استكمال عملية التوظيف بعنوان السنة المالية المعنية.
ـ الإقبال الضعيف على هذه الوظائف أو بعضها بسبب نقص الإعلان والدعاية من جهة وتدني الأجور من جهة أخرى، ومعالجة هذه المشكلة أو الظاهرة يكمن برأيي في معالجة هذه الأسباب التي كانت وراء وجودها.
❊ يرتبط التشغيل بالاستثمار، وإلى اليوم لا تزال الدولة تتحمّل هذا العبء الاقتصادي والاجتماعي، ما هو دور المؤسسة الاقتصادية في بناء هذه المعادلة؟
❊❊ من التحديات الكبرى لأي اقتصاد نجد تحدي التشغيل، وهذا التحدي مرتبط بتحدي النمو والنمو مرتبط بالاستثمار، إذا فالسؤال المطروح هو هل نشغل من أجل الاستهلاك أم نشغل من أجل الإنتاج؟ بعبارة أخرى هل نشغل من أجل استهلاك الثروة أم نشغل من أجل خلق الثروة؟
صحيح أنّ لكل مقاربة من هاتين المقاربتين مزاياها وسلبياتها وظروف تبنّيها، لكن بالنسبة للجزائر لا يمكن تبني مقاربة التشغيل من أجل الاستهلاك في ظل غياب إنتاج وطني قادر على امتصاص الكتلة الأجرية الزائدة، وتجنب ارتفاع معدلات التضخم وتباين المواقف حول قرض الاستهلاك يدل على ذلك.
فالجزائر تحتاج إلى زيادة الطلب لكن من خلال الإنتاج، أي خلق مناصب شغل جديدة وأجور جديدة، انطلاقا من الاستثمارات المنتجة عبر إعادة هيكلة النسيج الصناعي العمومي، وتشجيع المؤسسة الصغيرة والمتوسطة للمساهمة في عملية التنمية.
ويمكن للجزائر أن تراهن على الكثير من القطاعات إن لم نقل كلها على غرار الصناعة والفلاحة والسياحة والخدمات، لأنّها قطاعات غير مستغلة بشكل كامل وقابلة لاستيعاب المزيد من الاستثمارات، وخلق المزيد من مناصب الشغل بشرط تحديد أهداف رقمية، وإدارة هذه الاستثمارات إدارة سليمة تسمح لها بتحقيق أهدافها.
❊ بالنسبة لتسوية المناصب الشاغرة، هل يجب أن تؤول لفئة ما قبل التشغيل أم يجب إخضاعها لمعايير الإنتاجية والمردودية؟
❊❊ إنّه من الصعب تطبيق معايير الإنتاجية والمردودية والكفاءة في التوظيف، في ظل سياسة التشغيل الحالية، مادامت هذه الأخيرة تولي الأولوية للجانب الاجتماعي على حساب الجانب الاقتصادي، فالدولة وضعت آليات وأجهزة عديدة ومختلفة لترقية الشغل وتسهيل إدماج الشباب، وتشجيع روح المبادرة المقاولاتية والإبداع لدى هؤلاء الشباب. وقد ساهمت هذه الأجهزة في إدماج ما يقارب 500 ألف طالب للشغل وخلق 250 ألف مؤسسة، وتوزيع أكثر من 800 مليار دينار خلال السنوات الأربعة الأخيرة. فهذه الأرقام تعبّر عن إرادة الدولة في ربط الشغل بالمؤسسة، لكن رغم كل هذه المجهودات تبقى النتائج دون المستوى المطلوب، ولهذا ينبغي الاعتماد على مقاربة أكثر جدية في إدارة هذه الآليات والأجهزة، خاصة تلك المتعلّقة بدعم المؤسسة ومصاحبة وتوجيه حاملي المشاريع الصغيرة والمتوسطة، لتفادي الفشل والمساهمة في امتصاص البطالة.
فاعتماد معايير المردودية والكفاءة في التوظيف يتطلّب إصلاح هذه الأجهزة، وإضفاء المزيد من الشفافية في عملها وتزويدها بالأطر الكفأة واستعمال تقنيات التقييم الحديثة عند عملية الانتقاء.
❊ هل تلعب أدوات التشغيل دورها، أم ينبغي إجراء مراجعة لأدائها من حيث صياغة التوجهات الكبرى؟
❊❊ لا يمكن إغفال مساهمة هذه الأجهزة في مساعدة وتوجيه وإيجاد مناصب شغل للكثير من طالبي العمل، إلاّ أنّ هذه الأجهزة تحتاج إلى إعادة هيكلتها لإعادة النظر في صلاحيتها وطرق عملها، وتعزيز امكاناتها المادية والبشرية، لكن إعادة الهيكلة هذه لا تكون مجدية، إلا إذا تمت في إطار استراتيجية تشغيل واضحة الأهداف والوسائل، ووضع هذه الإستراتيجية يستوجب إصلاحات هيكلية إدارية، اقتصادية وتعليمية هدفها خلق تكامل وجسور فيما بينها، وربطها بسوق الشغل في إطار رؤية مستقبلية تستمد طموحها التنموي من الاستثمارات المنتجة طويلة الأجل، وذلك بتوفير بيئة استثمارية مناسبة تعمل على تشجيع الاستثمار العمومي والخاص، وتوزيعه محليا وجهويا توزيعا عادلا لاستغلال فرص الاستثمار المتاحة بالهضاب العليا والجنوب الكبير، والحفاظ على التماسك والاستقرار الاجتماعي، والمساهمة في النمو الاقتصادي والخروج التدريجي من التبعية للمحروقات في تمويل اقتصادنا، وللأسواق الخارجية في استهلاكنا وتموين مؤسساتنا.