لا تزال ذكرى تأميم المحروقات تلقي بظلالها على الساحة الوطنية ويتذكرها باعتزاز كل ما عايشها في وقت يواصل القطاع الحيوي مساهمته في تمويل عجلة التنمية الشاملة التي تقودها الدولة. وعشية المناسبة حاورت الشعب النقابي محمد الأخضر بدر الدين فاستعادت معه الذكرى بأبعادها مستعرضا مكانة قطاع المحروقات والدور الذي تلعبه شركة سوناطراك في ديناميكية الاقتصادية، مثمنا قيام مؤسسات الدولة بحماية هذا المكسب وإبعاد الخطر الإرهابي عن المواقع التي يتم استغلال الثروة الباطنية مثلما حدث في تيقنتورين. ويشيد بالعمل الكبير للحركة النقابية في تجسيد قرار الدولة والسهر على مواصلة العمل ومضاعفة الجهد مذكرا كيف كان أوضاع العمال قبل التأميم مقارنة باليوم وفيما يلي مضمون الحوار.
تمر، غدا، 43 سنة عن إعلان قرار الدولة تأميم المحروقات، ماذا تمثل الذكرى في الظروف الحالية بكل دلالاتها التاريخية؟
* عشت تلك التأميمات كنقابي مندوب فيدرالية عمال المحروقات ومن الناشطين في أوساط العمال لدعم تلك القرارات التاريخية، علما أنها تمت في غياب تضامن نقابي عربي وعالمي، ما عدا الموقف المؤيد من نقابة «سي.جي.تي» الفرنسية، كون لم تكن لديهم قناعة بنجاح القرار الجزائري إثر فشل التجربة التي قادها مصدق في إيران ونجاح الشقيقات السبع في إسقاط نظام حكمه. لقد كانوا بتلك الرؤية على خطإ، كون الموقف الجزائري بتأميم المحروقات يستمد روحه من صميم الثورة التحريرية الفريدة من نوعها عالميا وبالتالي النجاح كان حتميا بفضل العزيمة والتحدي. وبالعودة إلى الذاكرة، استحضر تلك المرحلة ورجالاتها خاصة في الحركة النقابية لقطاع المحروقات وتضحيات العمال الذين تجنّدوا كرجل واحد لضمان استمرارية الإنتاج في الحقول البترولية بعد انسحاب الإطارات الفنية من الأجانب وهم فرنسيون، الذين اعتقدوا، خاطئين، أن شعلة النفط تنطفئ بغيابهم، لكنها زادت توهجا بفضل عزيمة وإخلاص الجزائريين الذين أمسكوا بدواليب الإنتاج ويمكن وصفهم بجيل التحدي القائم على منظومة قيم الوفاء للوطن من مهندسين وتقنيين وعمال توجهوا إلى الجنوب للعمل، بالرغم من قلة الإمكانات وصعوبة المناخ.
بالفعل أطلق القرار بلسان الراحل الرئيس هواري بومدين من دار الشعب مقر اتحاد العمال، ويحملنا ذلك القرار الذي يأخذ شكل الأمانة التي تحفظ للأجيال المسؤولية بتحمل الواجب حتى نكون في مستوى الحدث وبالتالي السهر على ضمان استمرارية المصالح الوطنية الكبرى والعمال يبقون في الطليعة لحماية المكاسب الثمينة وعدم التفريط فيها بمضاعفة العمل وإتقانه.
بلا شك لايزال مشهد ذلك اليوم في أذهان من عاشوه، صف لنا كيف عشت الحدث وماذا حقق من تغييرات لأوضاع ما قبل التأميم؟
* أتذكر صباح ذلك اليوم، 24 فبراير 1971، كان عرسا للجزائر احتضنته دار الشعب وامتدّ إلى كافة مناطق جنوب البلاد حيث تنام ثروات كانت تستغلها الشركات الفرنسية بشكل أقرب للنهب. قبل التأميم كان العمال والنقابيون يعانون من مختلف أشكال التمييز والإهانة، إلى درجة بلغ فيها التمييز درجة العنصرية بالفصل مثلا بين نادي العمال الأجانب ونظيره للعمال الجزائريين، فالأول كان يتوفر على كافة شروط الراحة والرفاهية، والثاني يفتقر لها بشكل فظيع. لقد أنهى التأميم مرحلة قاسية من الاستغلال والتمييز. ومن الطبيعي كان إطلاق اسم 24 فبراير على قاعدة الحياة لحاسي مسعود رمزا لإنهاء مرحلة الهيمنة الأجنبية بكل مرادفاتها من استغلال واحتقار وإهانة للجزائريين؛ إنه اسم لعنوان الكرامة.
ولعل من المفيد الإشادة بما بذله ذلك الجيل من تحمّل للواجب لضمان الحاضر والرحمة لأولئك الذين رحلوا عنا من ذلك الجيل الطلائعي الذي وضع أسس البناء والتشييد وساهم في تغيير أوضاع البلاد نحو الأفضل رغم الظروف الصعبة في تلك السنوات والتركة السلبية التي خلفها الوجود الاستعماري جراء اتباعه سياسة الأرض المنهوبة والمحروقة. وبالمناسبة، ينبغي الترحم على أرواح 5 إطارات فنية لسوناطراك توفوا جراء سقوط الطائرة التي كانت تقلّهم في رحلة بين ليننغراد وموسكو سنة 1972 لما كانوا في مهمّة عمل إلى روسيا للتفاوض، وأذكر منهم بن علي شريف وملوك وكلهم شباب تملأهم الإرادة والوطنية.
اليوم وبعد كل هذه السنوات، ما هي حالة الشركة الوطنية للمحروقات من حيث القدرات الإنتاجية والمؤشرات ومدى خضوعها للشفافية وما هي برأيك ضمانات تحصين مركزها الاقتصادي؟
* برأيي أن حصيلة الشركة الوطنية للمحروقات، التي احتفلت بذكراها الخمسين في 31 ديسمبر الأخير، تشكل مفخرة لكافة الجزائريين. ويعود نجاح سوناطراك وجميع المؤسسات التابعة لقطاع المحروقات، إلى عنصر الثقة الموضوعة في الإطارات والعمال المخلصين وهذا بحد ذاته مصدر يولد طاقة الانتصار أمام كل امتحان. وتصنّف المؤسسة، التي تضم آلاف الجزائريين، في الريادة إفريقيا وعربيا. وبفضل المناخ الإيجابي الذي يسود فيها، فقد انعكس مباشرة على الوضع الاجتماعي للعمال محققين مكاسب لا يمكن نكرانها. وتواصل نقابة المحروقات، التابعة للاتحاد العام للعمال الجزائريين، حمل انشغالات العمال والمؤسسة، بفضل تواجدها في الميدان. علما أن تجربتين لتأسيس نقابة أخرى باءت بالفشل في المهد، فليس أفضل من اتحاد العمال لمواصلة حمل المشعل الذي دافع عنه منذ التأميم والذي غيّر مجرى التاريخ لينسجم مع المسار الذي سطرته الثورة التحريرية المجيدة. لقد قامت فيدرالية المحروقات بضم كافة نقابات القطاع في منتصف التسعينيات، ثم تحقق إعادة ضم كافة المؤسسات التابعة للمحروقات وإنهاء وضعية غير سليمة أفرزتها سياسة إعادة هيكلة المؤسسات التي فككت القدرات وبعثرت الإمكانات، واليوم توجد المؤسسات مجتمعة حول بعضها البعض ومركزها المصلحة الاقتصادية الوطنية وتمكين البلاد من تحقيق الثروات وتوظيفها لفائدة المجموعة الوطنية.
وبالمناسبة، يبدو لي أن جانب الشفافية في تسيير موارد المحروقات متوفر، والمعروف أن سوناطراك تقدم حصيلتها المالية، كما أن مداخيلها تصبّ مباشرة في حساب بنك الجزائر، ولا تحصل منها سوى على نسبة 15 من المائة توجه للتسيير، كما أنها تدفع الجباية.
بين الأمس واليوم، ألم يتغيّر مفهوم العمل النقابي في قطاع المحروقات، وكيف تتصور التعددية النقابية في وقت تقدم فيه صورة التعددية في قطاعات أخرى مشهداً سلبيا يهدد مكاسب المجموعة الوطنية، وأشير هنا إلى إضراب قطاع التربية؟
* تتمثل فلسفة العمل النقابي، خاصة في قطاع حيوي كالمحروقات، في اعتماد الحوار المستمر بين الشركاء منذ فترة السبعينيات، فقد تم حينها تأسيس لجان متساوية الأعضاء وجعل الانضباط في الصدارة كقيمة لضمان الإنتاج وكان للنقابة حينها دور فعال بحق. وقد نجح قطاع المحروقات أيضا، بفضل الدور الإيجابي للنقابة التي ترتكز على المصلحة الوطنية، باعتبارها فوق كل اعتبار، فلا يمكن التقدم دون تكريس السلم الاجتماعي. وبالمقابل، كانت المؤسسة تلتزم بالإصغاء للشريك الاجتماعي والتجاوب مع مطالبه، علما أنه في تلك السنوات لم تكن لدى الإطارات نزعة مادية بحتة، فلم تكن الأجرة الشغل الشاغل الأوحد وإنما كانت لديهم قناعة وطنية بضرورة خدمة البلاد. والحقيقة كانوا إطارات وعمال محل تقدير من كافة الجهات. ولأن للقطاع علاقة مباشرة مع ما يعرفه عالم المحروقات من تطور علمي، كان إطاراتنا، ولا يزالون، على درجة عالية من المعايير الدولية في كافة المجالات. وللإشارة فقط، فإن للجزائر مقعد الأمين العام للاتحاد العربي للنفط ولديها أيضا مقعد نائب المنظمة العالمية للطاقة والكيمياء والمناجم وتتولى الأمانة العامة للاتحاد الإفريقي.
وانطلاقا من هذا، فإن مفهوم العمل النقابي يتمثل في الحرص على رفع التحدي، وبدون مبالغة أن نقابة بهذا المضمون، أي النضال من إجل المصلحة العمالية والوطنية بكل ما يترتب عنه من صعاب وتحمّل المتاعب هي روح المؤسسة، حيث تكون للنقابة نظرة اقتصادية واجتماعية لصالح العمال وتحرص على حماية المؤسسة بضمان نموها. واليوم يضمن الدستور التعددية النقابية، لكن إذا كانت التعددية الحزبية تقوم على تعددية البرامج والأفكار، فإن مهمة النقابة تكمن في حماية مصالح العمال وبالتالي تصبّ التعددية النقابية في تشتيت الصفوف فتكون المكاسب ضعيفة، ويكفي النظر للوضع الاقتصادي والاجتماعي الموجود في ألمانيا، مثلا، حيث توجد نقابة واحدة وقوية ونفس الشيء في أمريكا والنمسا وهولندا، بخلاف ما هو موجود في فرنسا وإيطاليا حيث التعددية النقابية، ومن ثمة فإن المصلحة تكمن في توجيه العمال نحو ما يجمعهم ويوحّد إطارهم النقابي.
قبل سنة تعرض القطاع لهجوم إرهابي متعدد الجنسيات، استهدف موقع تيقنتورين الغازي، لولا أن حسم جيشنا الوطني الشعبي الأمر، ماذا يعكس مثل هذا الموقف وما هي دلالاته؟
* كانت تلك الحادثة الخطيرة محطة حسمت فيها الجزائر الموقف بدون تردّد لوضع حدّ للمؤامرة ذات الأبعاد الخارجية، ومن هذا المنبر أحيي الجيش الوطني الشعبي على الدور القوي الذي أداه رجاله الأشاوس والمغاوير من خلال تدخلهم السريع والحاسم باحترافية يشهد لها البعيد قبل القريب. والواقع تلك الملحمة، التي لم يكن من بديل لها، بالنظر لما كان يريده الإرهابيون وهم من جنسيات أجنبية مختلفة أرادوا ضرب مقدرات الشعب الجزائري، أعطت قوة لكافة الجزائريين، خاصة المقيمين بالخارج، حيث أبدوا اعتزازهم بالانتماء لبلدهم الجزائر. وأعرب أكثر من واحد عن الشعور بالفخر لما قام به أبناء جيشنا الباسل الذي يبقى عماد الوطن ودرعه المتين. وتمثل تجربة التسعينيات الأليمة منعرجا أنجز فيها الجيش الجزائري، سليل جيش التحرير الوطني، ما يعجز عنه غيره في بلدان أخرى في مواجهة ما تعرّضت إليه الجزائر. وبلا شك سيبقى إطارات وعمال قطاع المحروقات على درجة عالية وفي مستوى المواقف الوطنية أمام التحديات التي يفرضها النظام العالمي القائم على استهداف موارد وثروات الشعوب، وهو ما تفطنت إليه الجزائر منذ البداية متمسكة بمركزها الريادي والفاعل في بعث نظام اقتصادي عالمي عادل ومتوازن ومتضامن يصبّ في خدمة الشعوب من أجل التنمية.