التغييرات الجذرية التي أحدثتها الجزائر في النصوص المتعلّقة بالاستثمار سمحت بتدفّقات مالية هامة في كل القطاعات التجارية والخدمات، وهي عبارة عن تحفيزات لا توجد حتى لدى البلدان التي تدّعي ما يسمى بالانفتاح الاقتصادي أو التي تسير على مبدأ “دعه يعمل دعه يمر”، أي الليبيرالية المتوّحشة.
هذا التوجه الجديد الذي جاء مباشرة عقب تلك الخيارات الحتمية التي فرضت نفسها بحكم التطورات في السياقات الدولية، وبخاصة الاندماج في المنظومة العالمية مهما كان الأمر،وهذا بالسعي قصد الانضمام لـ«أو ـ أم ـ سي” وإبرام عقد شراكة مع الاتحاد الأوروبي والبحث عن أسواق للتصدير.
وقد بذلت مجهودات مضنية وشاقة في هذا الاتجاه لترقية أداء الاقتصاد الجزائري وإضفاء عليه طابع المنافسة، وكذلك إيلاء العناية كل العناية للمؤسسة بجعلها مصدرا للثروة والقيمة المضافة.
هذا الاطار العام هو الذي دفع بالمشرّع الجزائري إلى إحداث ثورة في القوانين المسيّرة للاستثمار لاقت استحسان الشركاء الأجانب، الذين عبّروا عن ارتياحهم للتسهيلات الممنوحة في إطلاق أي مشروع. والمسألة اليوم ليست ما يتداوله البعض بأنّ التدفّقات لا تتجاوز الـ ٣ مليار دولار سنويا، وإنما المسألة الجديرة بالتأكيد عليها هي أنّ أكبر الشركات العالمية تنشط في الجزائر، حاضرة بقوة عبر نقاط عديدة من الوطن، راغبة في فتح المزيد من الفروع لها في هذا البلد، وتلقى كل المساعدة والاعانة من قبل السلطات العمومية في توسيع دائرة وجودها ولا تشتكي من أي شيء كونها خاضعة للقوانين.
هذه حقيقة لا مفرّ منها تحمل أكثر من دلالة سياسية وأبعاد اقتصادية تشير إلى التغير الهام الحاصل في الارادات الراغبة في التحسين أكثر من مناخ الأعمال والتشريعات، وهذا بإزالة كل المطبّات التي ما تزال تعترض هذا المحور الاستراتيجي.
وقد يخطئ من يعتقد بأنّ الجزائر من أضعف الدول استقطابا للاستثمار الأجنبي، هذه الأسطوانة المشروخة نسمعها منذ بداية التسعينات إلى غاية يومنا هذا، يجترها ويكرّرها أصحابها دون معرفة واقع الاستثمار في هذا البلد، ويتمادون في ادّعاءات لا أساس لها من الصحة بتاتا لأنّهم يعتمدون على تقارير خارجية. كل الأرقام التي بحوزتها خاطئة وكاذبة لأنّها تقصي المراجع الجزائرية في صياغة وتدوين المعلومات الحقيقية وذات المصداقية، لذلك فإنّ الكثير من يتناولون هذا الموضوع يجدون أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة، نفس الأرقام يعاودون ذكرها في كل مرة، أو قل كل سنة من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١٣،ولا ندري لماذا هذه العيّنة لـ ٧ سنوات فقط، في حين أنّ النسبة المسجّلة تفوق بكثير ما اجتهد فيه البعض من هؤلاء في اصطياد كل ما هو سلبي فقط، معتقدين بأنّ البترول هو كل شيء في هذا البلد، متناسين القطاعات الأخرى التي تطوّرت بشكل إيجابي في غضون السنوات الفارطة بفضل الصرامة في إدارة شؤون الاقتصاد، وهذا بشهادة من “الأفامي” مؤخرا.
والرؤية للاستثمار الأجنبي ليست جامدة بل في كل مرة تقيّم السلطات العمومية مساره في اتجاه ترقيته نحو الأفضل والأحسن، ولا تترك الأشياء تتجاوزها باسم “حفنة من الدولارات”. وفي هذا الاطار فإنّ مقتضيات تسيير اقتصاد البلد استدعت إدخال آليات جديدة تتكيّف مع الأوضاع الراهنة، خاصة الخارجية منها كاللجوء إلى قاعدة ٤٩ ــ ٥١، وحق الشفعة وتنظيم عملية التحويلات الخاصة بالعملية الصعبة التي تجاوز البعض الحدود القانونية.
هذه الضوابط لا تندرج أبدا في عملية تثبيط العزائم حيال الاستثمار الأجنبي، وإنما الهدف من ذلك هو إبقاء ما يعرف بمبدأ “حق النظر” لمعرفة ما مدى مطابقة النصوص مع الواقع، وكذلك المرافقة الميدانية والمتابعة المتواصلة لكل ما يدخل في هذا الجانب، والكثير لا يفهم هذا بل يريدون إبعاد الدولة من ممارسة حقّها في الاطلاع على ما يجري على الأرض باسم شعارات تجارية غامضة أهلكت العديد من الدول، التي تركت هذه الجبهة مفتوحة لكل من هبّ ودبّ.
بالاضافة إلى كل هذا، فإنّ تنظيم وتسيير الاستثمار الأجنبي بالجزائر لا يمليه لا “الأفامي” ولا “البنك العالمي” ولا جهات أخرى، بل يخضع لنظرة سديدة. وفي هذا السياق فإنّ هناك تشجيعات مادية ومعنوية لا توجد حتى عند البلدان الأخرى لكن الاستثمار الأجنبي لا يأتي من المال فقط وتحويل العملة، وإنّما إرفاق ذلك بتوفير مناصب العمل وهو الاستثمار المنتج والتكوين، ونقل المعارف والتكنولوجية، وهذا لا يعني أنّ الجزائر ضد التجارة والخدمات، وإنّما الأولوية للطرح الأول المتعلق بأن يدمج هذا الاستثمار ضمن السياسة المنتهجة المكمّلة لبعضها البعض في التشغيل وما تبع ذلك، وهذا تجنّبا لأيّ تداعيات أخرى لا ترتبط بالمفهوم الشامل لمنطلقات الاقتصاد والتنمية، لذلك فإنّ الاستثناءات والاعفاءات التي تقدّمها الجزائر غير موجودة في أي بلد. وفي هذه الحالة فإنّ الانتقاء ضروري لاختيار الاستثمار الدّائم والفعّال.
الاستثمار محرّك الدورة الاقتصادية
جمال أوكيلي
شوهد:1085 مرة