الصحة ليست على ما يرام وتحتاج إلى ورقة طريق واضحة الأهداف
مؤسسة للوقاية تسطر ورقة طريق للحكومة ووكالة لليقظة تخص الأمراض المتنقلة
يمثل طب العمل انشغالا في عالم الشغل في وقت ترصد له مؤسسات موارد مالية، إدراكا منها لما يحققه من قيمة مضافة ينتجها العامل الذي يشتغل في ظل ظروف ملائمة ويعتنى به صحيا، بينما لا تزال مؤسسات أخرى في الصناعة والفلاحة خاصة والخدمات متأخرة في تجسيد هذا المطلب. الدكتور محمد بقاط، رئيس عمادة الأطباء الجزائريين، يشخص في هذا الحوار واقع طب العمل، ويثير مدى أهمية التكفل بصحة العمال، حماية لقوة الإنتاج التي يحتاج إليها النمو. كما يتحدث عن تأثير اتساع تكنولوجيات الاتصال الجدية في الاقتصاد وضرورة التزام الوقاية منها، ليدعو إلى إدراج الصحة العمومية في صلب التحولات التي تعرفها البلاد من أجل بناء منظومة تستجيب للطلب، يقودها القطاع العام وترتكز على مقاربة لا مركزية اتخاذ القرار وهذا بعد القيام بحوار شامل مع الفاعلين في القطاع، لكسب الثقة في القطاع ولدى المجتمع. وفيما يلي مضمون الحوار:
الشعب: ما هي مكانة طب العمل في المنظومة الاقتصادية اليوم؟
د.محمد بقاط: يخضع طب العمل لقوانين وتشريعات تحكم نشاطه بهدف حماية العمال من خطر الأمراض المهنية وتحسن ظروف العمل في الوسط المهني في كافة القطاعات. هناك قطاعات تشكل خطرا على صحة العامل مثل المحاجر، مصانع، الزراعة، وإذا كان طب العمل موجودا على مستوى المؤسسات الكبرى، فإن الأمر ليس كذلك في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، حيث يفتقر أغلبها لخدمات طب العمل خاصة في الوقاية، مما يقود حتما إلى ظهور أمراض مهنية مختلفة لها كلفة على ميزانية الصحة العمومية، بل هناك أمراض مهنية لا يعترف بها لدى الضمان الاجتماعي لأنها غير مدرجة في مدونة طب العمل وقاية وعلاجا.
القوانين موجودة وتحتاج فقط إلى التطبيق، وهي الرسالة التي ينبغي أن توجه عشية حلول اليوم العالمي للشغل أو عيد العمال، الذي يرمز للتضحية والمكاسب. للأسف في قطاعات عديدة هناك نقائص واختلالات كما هو في الصناعة والفلاحة بسبب استعمال المبيدات الكيماوية، مما يحمل مصالح وزارة العمل المعنية، مسؤولية كبرى في مواجهة الواقع، كونها المكلف الأول بمراقبة مدى تطبيق عالم الاقتصاد لقوانين طب العمل وهي تبدو لا تقوم بهذا الواجب أي مراقبة تطبيق القانون.
كما للمؤسسات الاقتصادية مسؤولية في العمل بنظام طب العمل (هناك مؤسسات تلتزم بذلك) مثل التشخيص قبل التشغيل، لأن توظيف شخص مريض يترتب عنه كلفة، كما أشير إلى جانب هام يخص تشغيل العمال الموسميين خاصة في الفلاحة، فيتعرض العامل لإصابة جراء تعامله مع وسط مليء بمبيدات الحشرات، فيشتغل الشخص لمدة ستة أشهر ثم يغادر مصابا بأمراض يصعب إثباتها على صاحب العمل، لأن علاقة العمل انتهت.
مع اتساع نطاق استعمال تكنولوجيات الاتصال الجديدة والأدوات التقنية الحديثة في مواقع العمل، أليس لها تأثير على صحة العامل وما هي انعكاساتها في هذا المجال؟
العلاقة بين الوسائل التكنولوجية وصحة العمال تكون من حيث طريقة تعاطي الفرد معها، لذلك يوجد مبدأ يتعلق بضرورة التزام الحيطة والحذر من جانب العامل نفسه لتفادي أي انعكاس سلبي على صحته. لا نعلم ولا يوجد دليل على أن للتكنولوجيات الجديدة تأثير على الصحة وتفرز أمراض مهنية، إلا أنه ينبغي الانتباه إليها علما أن منظمة الصحة العالمية تشتغل على هذا الملف من كل جوانبه (علاقة التطور التكنولوجي بالصحة في الوسط المهني).
*في نفس الإطار وعشية إحياء اليوم العالمي لحرية الصحافة الموافق لـ3 ماي، يسجل وجود أمراض مهنية عديدة ترتبط بالمهنة وبعضها غير مدرج في مدونة الضمان الاجتماعي، ما رأيك؟
المبدأ هو أن يتم تأكيد وجود علاقة بين الممارسة المهنية وحالة المرض الموجود، أي توضيح العلاقة السببية بين العقل والنتيجة.
إن مهنة الصحافة تدخل في نطاق العمل الفكري، وفي فرنسا مثلا يسجل ارتفاع حالات الانتحار في قطاع الاتصال نتيجة ضغوطات تمارس على العمال.
هناك أمراض تثير التساؤل مثل ما يتعلق بوظيفة القلب، ضغط الدم والسكري تستحق العمل عليها للتأكد من علاقتها بالمهنة، وهي مهمة يفصل فيها الخبراء، فلا يعقل أن يلتحق إنسان بالعمل في الصحافة بصحة جيدة ويغادر محملا بأمراض ترهقه صحيا وماليا بسبب كلفة العلاج.
من هنا يقودنا الحديث لتقييم واقع الصحة العمومية اليوم، كيف تشخصها من زاوية الممارس ورئيس مجلس أخلاقيات مهنة الطب؟
قطاع الصحة ليس على ما يرام، ويحتاج اليوم إلى ورقة طريق واضحة الأهداف ترتكز عل تطبيق المبادئ العامة للصحة لتشمل كل الجزائريين، بحيث يكون القطاع العام على درجة من القوة المهنية ويكون في متناول كل المواطنين بتكفل جيد بالمريض، وهو ما يفتقر إليه حاليا.
بالمقابل يكون قطاع الصحة الخاص مكملا ولا يجب أن يكون هوالذي يسيطر على الساحة، وحتى في البلدان المتطورة يلاحظ كيف أن القطاع العام قوي وله طابع استراتيجي.
الوضعية الراهنة تحتاج إلى القيام بتشخيص من أجل تحديد مواقع الخلل وطبيعة النقائص من خلال انتهاج حوار واسع وشامل مع الفاعلين في قطاع الصحة العمومية من أطباء وممرضين ومسيرين. يوجد خلل يمكن معالجته في إطار هذا الحوار وبناء على تشخيص جيد ومعمق.
إن الصحة ليست إحصائيات أو البروز في المشهد من خلال إحياء مواعيد، علما أن هناك أمراض تم القضاء عليها ولا تزال تشكل مواضيع لقاءات، بينما الأكثر جدوى أن يتم الوقوف عن خطر أمراض مستقبلية مثل السرطان والأمراض المزمنة.
بهذا الخصوص أوضح أن مرض السرطان يتطلب مواجهته من خلال مخطط حقيقي للوقاية من انتشاره، مثل سرطان الثدي للنساء والبروستات للرجال، مما يستلزم تكفلا وقائيا ينطلق من إرساء برنامج قاعدي ينطلق من البلديات. للأسف نحن بدأنا من الأعلى بإنشاء مراكز للعلاج أي ننتظر حتى يحدث المرض للعلاج في ظروف صعبة ومرهقة للمريض(يكفي متابعة الواقع بمركز بيار ماري كيري بمستشفى باشا) في مرحلة يتقلص فيه أمل الحياة للمصابين.
من هذا المنبر أدعو إلى إحداث مؤسسة وطنية للوقاية ترسم معالم ورقة طريق للحكومة ووكالة لليقظة تخص الأمراض المتنقلة (ينبغي أن نتذكر ما حدث جراء الكوليرا الصائفة الماضية)، لتكون أداة عمومية تتكفل بوضع معالم مكافحة تلك الأمراض وكسر الإشاعة (الجدية في الاتصال).
*في وقت تتجه فيه البلاد إلى إرساء نظام سياسي واقتصادي واجتماعي جديد ما هي مكانة الصحة في تجسيد مطالب الحراك؟
**ينبغي التوجه إلى اعتماد نظام اللامركزية في إدارة قطاع الصحة من خلال إدماجه في مركز السياسة العمومية. لو تسأل أي مواطن في الحراك حول الصحة تجد أنها تمثل الانشغال الأول في ظل تحول الصحة إلى شبح يخيف المواطن ويرهقه بحثا عن علاج أو دواء.
يحتاج المجتمع اليوم إلى توجيه موارد المحروقات أوجانب كبير منها للاستثمار في تنمية الصحة بكل فروعها وخاصة لبناء مستشفيات كبرى يؤطرها أطباء أكفاء وممرضون مؤهلون يتلقون أجورا ملائمة.
حان الوقت للمبادرة بوضع تقييم معمق والشروع في العمل وفقا للأهداف التي تستجيب لمطلب المواطنين بدءا بمعالجة المسائل ذات الأولوية.
وأشير هنا إلى دور الإعلام في مرافقة إعادة بناء المنظومة الصحية بالتعامل بمسؤولية مع ومضات إشهار تروج لمنتجات غذائية تشكل خطرا على صحة المستهلكين مثل البن والأجبان، ولذلك من المفيد أن يخصص للمواطن ما يلزم من إرشاد وتنبيه وتحسيس حتى يتفادى التعرض لمرض تكون كلفته العلاجية مرهقة.