يكشف الصحفي المتخصص في تاريخ الجزائر بين ١٩٤٥ و١٩٦٢ عن الكثير من الحقائق والوقائع جمعها في بحوثه وطريق جمعه للشهادات حول مختلف مراحل كفاح الجزائر ضد الاستعمار.
وحول كتابة التاريخ واتفاقيات ايفيان، وطلب الاعتذار من فرنسا ورحيل الكثير من رموز الثورة دون أن نأخذ منهم الشهادات. يتحدث لـ«الشعب» بصدر رحب وبصراحة من أجل المصلحة العليا للوطن، الاسهام في تقديم أمور موضوعية حول الذاكرة الجماعية.
@ «الشعب» تحتفل الجزائر اليوم بالذكرى الـ٦١ لعيد النصر الذي كان تتويجا لاتفاقيات ايفيان وتم من خلاله إعلان وقف إطلاق النار من قبل رئيس الحكومة المؤقتة آنذاك بن يوسف بن خدة، ولكن تبقى هذه الاتفاقيات مجهولة لدى الكثيرين فهل يمكن أن تقدم لنا قراءة في هذه المفاوضات التي أعتقد أنها تبقى بعيدة عن التعريف بها بالمقارنة مثلا مع بيان أول نوفمبر ١٩٥٤؟
@@ محمد عباس: إن اتفاقيات ايفيان كانت صراعا كبيرا بين الجزائر وفرنسا الاستعمارية من أجل مصالح كل طرف، ونجحت الجزائر في افتكاك الوحدة الترابية التي لم تكن أمرا هينا، وقد تبين أن الوفد المفاوض الجزائري انتهج خطة تكتيكية لنيل الاستقلال بالنظر لتعنت فرنسا وعليه بعد الاستقلال أكد الرئيس الراحل بن بلة بعد وصوله إلى الحكم «بان اتفاقيات ايفيان ليست قرآنا»، وهو ما يعكس أن نيل الاستقلال كان أولوية قبل التفرغ لمناقشة تعنت الاستعمار لحصولها على امتيازات غير منطقية.
وكان ملف فصل الصحراء عن الشمال، والامتيازات الممنوحة للأقدام السوداء من النقاط التي عكست سوء نوايا فرنسا بالإضافة إلى التجارب النووية، والتي تنازلت عنها فيما بعد قبل أوانها فالتجارب النووية وبعد أن وجدت بولينيزيا في المحيط الهادي تخلت عن الصحراء الجزائرية، بينما هجرت الأقدام السوداء الجزائر البلاد وهي التي دافعت عنها فرنسا بضرورة معاملتها معاملة سوية مع الجزائرية على أن تتم مخاطبتهم باللغة الفرنسية بعد أن كانت ترغب في إبقاء مجموعات منها في الجزائر، كما انسحبت فرنسا من المرسى الكبير والعديد من المطارات التي طلبت استعمالها على غرار مطار كولومب «بشار» قبل الأوان، وهو ما يجعلنا نقول بان اتفاقيات ايفيان تمت على أسس متحركة.
وأعتقد أن الاتفاقيات كانت تتويجا لبيان أول نوفمبر ١٩٥٤ وحققت انتصارا على ٣ أصعدة أولها كان على المستوى السياسي حيث تمكنت جبهة التحرير الوطني من إفشال فرنسا في تشكيل القوة الثالثة التي عملت على توسيعها دون جدوى لضرب جيش التحرير.
أما الانتصار الثاني فكان دبلوماسيا من خلال انتقاد «ديغول» لقيادة أركان الجيش الفرنسي في ٢٦ ديسمبر ١٩٥٩ حيث ذكرها بوعدها له بجلب دعم مساندة الشعب الجزائري غير أنه قال «كيف لطالب جزائري ينزل بعواصم أوروبية يقلب عليكم الطاولة وأنتم فشلتم بسفاراتكم وجيوشكم في كسب الدعم والتأييد».
ويتمثل الانتصار الثالث في هزم جيش التحرير الوطني فرنسا عسكريا من خلال قدرته على الصمود ومواصلة الكفاح وإعادة هيكلة نفسه في ظرف قياسي بعد محاولات فرنسا القضاء عليه فمثلا في سطيف تم تجديد شبكات جبهة وجيش التحرير ٧ مرات فكل مرة كانت تقضي فيها فرنسا على العناصر الوطنية تتجدد تلقائيا ووصل الأمر إلى إعادة تجديدها في بعض المناطق ٢٠ مرة وهو ما أتعب العدو.
وفي مجال نقص الترويج لاتفاقيات ايفيان فالكل يعرف الصراعات التي حدثت بين وقف إطلاق النار والاستقلال بين بعض قيادات الثورة والحكومة المؤقتة الأمر الذي أدى إلى محاولة تقزيم مجهودات ونضال البعض، وتبين أن بعض الزعماء كانت لهم عقد تجاه أعضاء الحكومة المؤقتة وحتى في فترة الاستقلال تبين عدم منح الأهمية القصوى لتاريخ الجزائر لعدم مشاركة البعض في بعض المراحل الهامة من ذاكرة الأمة .
خسرنا الكثير من المعلومات برحيل صناع الثورة
@ فقدت الجزائر الكثير من رموز الثورة دون أن يتم تسجيل شهادتهم أو كتابة مذكراتهم وهو ما يجعل من مأمورية كتابة التاريخ تتعقد فإلى ماذا يرجع هذا التقصير تجاه ذاكرة الأمة، وهل نستطيع أن نقول أن تاريخ الجزائر تم استغلاله للتغطية عن بعض السلوكات البعيدة كل البعد عن الوطنية؟
@@ بالفعل فالجزائر شهدت مؤخرا رحيل الكثير من رموز الثورة دون أن يقوموا بكتابة مذكراتهم، ولا نحن جمعنا عنهم شهادات في صورة تحمل الكثير من الخلفيات فبحكم تجربتي في جمع الشهادات ونشرها عبر الجرائد اكتشفت أن الكثير ممن صنعوا الثورة يشعرون بالظلم والتهميش وحتى الحقرة، ولهذا رفضوا ويرفضون التصريح والحديث عن ما عايشوه إبان الثورة، وهذا ليس من حقهم فالمفروض مواصلة الواجب تجاه التاريخ مهما كانت الظروف لأن التاريخ تاريخ الجزائر.
وأتساءل لماذا يرفض مثلا المجاهد العربي دماغ العتروس الحديث وقبله الراحل لمين دباغين. فانا أعتبرهم حلقات هامة من تاريخ الجزائر وملك لوطنهم وليسوا ملك أنفسهم فالذاتية والعواطف لن تقدم ولن تؤخر، وهناك من سبقهم الأجل على غرار محمد الصديق بن يحيي، ومحمد اعزورز من الولاية الثالثة وحتى محمد يزيد الذي كان مكتبة تاريخ متنقلة خسرنا الكثير من المعلومات التي كان يحملها معه تجاه الثورة.
وبحكم تخصصي في جمع شهادات عن الثورة فقد وجدت صعوبات في هذا الجانب وأحاول أن أقدم أفكارا واجتهادات عبر الجرائد لتكون نقطة انطلاق للباحثين للوصول إلى حقائق فالعمل في مجال التاريخ صعب للغاية للوصول إلى حقيقة مطلقة فكل شيء يبقى نسبي في ظل ظهور معطيات جديدة في كل مرة.
فالشهادات هي مادة أولية يجب أن تتم مقارنتها ودراستها والاستماع لشهادة ثانية على الأقل مثلما يحدث في المحكمة فالقاضي يجب أن يستمع لطرفين كحد أدنى للحكم على قضية معينة.
وحتى مرحلة الاستقلال لم نتعامل فيها جيدا مع تاريخنا الذي كان مثالا للنجاح لكن فشل بعض السياسات خاصة تكوين مواطن لمواجهة التحديات المستقبلية بالتمسك بتاريخه الباسل وليس أحلاما وأوهاما خربت كل مكاسب الثورة، والخطأ ليس مسموحا في هذه المراحل التي تشبه خطأ صانع المتفجرات الذي يقال أن خطأه الأول هو خطأه الأخير.
وعليه فالتحلي بالواقعية يبقى أحسن وسيلة لبناء وطن قوي يعتمد على اقتصاد منتج للثروة ويوفر مناصب عمل حقيقية وليس تقديم صدقات لأن هذا في رأيي هو التحدي الكبير، فرهان بناء صناعة وطنية قوية منذ السبعينات كان تحديا قبل أن يتوقف.
وأعود للحديث عن تاريخ الجزائر بألم من خلال بروز أقلام استعمارية تؤرخ لتاريخنا وتضفي عليه ما تشاء في ظل عجزنا عن الوصول لكتابة جزائرية للتاريخ وقراءة جزائرية كجزء من ثقافتنا الوطنية.
@ لقد أخذ مطلب اعتذار فرنسا عن جرائمها واعترافها بها حيزا كبيرا من اهتمام الساسة في الجزائر؟ فهل يمكن تصور حصول تطورات في هذا الجانب؟
@@ لقد بات هذا المطلب زيفا في بعض الأحيان ليس من باب تبرئة فرنسا ولكن استعماله من قبل البعض للتغطية على زيف سياسي وفشل خاصة وانه لم يكن بالحدة نفسها في الكثير من مراحل استقلال الجزائر، وحتى بعض الشخصيات التاريخية وبثقلها وجهت مجهوداتها للنهوض بالجزائر وتطويرها بدلا من التخفي وراء مطلب الاعتذار والاعتراف.
فقادة الثورة توقعوا دفع ثمن باهض مقابل الاستقلال فالشهيد ديدوش مراد قال بان الثورة ستستمر لـ ٨ سنوات، والشهيد بن بولعيد تحدث عن ١٠ سنوات، وحتى الراحل أحمد بيطاط وعند إلقاء القبض عليه من قبل سلطات الاستعمار الفرنسي قال له ضابط فرنسي كان يستنطقه «بأنكم ستدفعون ٣ ملايين قتيل مقابل الاستقلال في صورة تؤكد رغبة الاستعمار في قتل أكبر قدر ممكن من الجزائريين قبل الانسحاب».
فنحن توقعنا دفع الثمن غاليا، ويبقى الاعتراف والاعتذار شأنا فرنسيا فعندما يقررون ذلك سيقومون بخطوة تعكس حقيقة نضجهم، وضميرهم.
@ لقد تضاربت الأقاويل بشأن مقتل العقيدين سي الحواس وعميروش هل لنا أن نعرف حقيقة ما جرى؟
@@ أعتقد أن استشهاد العقيدين سي الحواس والعقيد عميروش عملية من تدبير المخابرات الفرنسية التي قامت بتلغيم جهاز الراديو الذي انفجر على الشهيدين والعديد من الرفاق بجبل تامر، حيث وبحكم علمها بحاجة المجاهدين لبطاريات الراديو المستعمل للإشارة تكون قد لغمت بطاريات لتصل والى الثورة ومنه كانت الكارثة، كما أن بعض الفرضيات تصب في خانة إلقاء القبض على احد المجاهدين الذي استسلم تحت طائلة التعذيب وقام بتوجيه القوات الفرنسية إلى المنطقة التي كان يتواجد فيها الشهيدان اللذان كان متوجهين للحدود الشرقية بعد تلقي العقيد عميروش لاستدعاء تلقاه عن طريق سلاح الإشارة من الولاية الأولى بالأوراس.
وبالتالي تبقى فرضية قتل الشيهدين من قبل زملاء لهم في الثورة كان مستبعدا مثلما تحدث عنه سعيد سعدي الذي يكون قد بنى شهادته على وثيقة، أما عن قضية رفاة الشيهدين وسر تواجدهم بثكنة علي خوجة بالعاصمة وكيفية نقلهم من جبل تامر فليس لدي معلومات وكل ما أعرفه أن الشيخ حماني قدم فتوى للرئيس الراحل الشاذلي بن جديد تسمح بجمع رفاة الشهداء ودفنهم في مقابر جماعية وهذا في ١٩٨٠.
@ كلمة أخيرة ؟
@@ يجب على الجميع قراءة التاريخ لأنه جسر المستقبل وجهله يبقى عائقا كبيرا لبناء مواطنة حقيقية، كما أن إتباع الواقعية في التعامل مع قضايا الشعب من شأنه أن يساعد على تعزيز حصانة وقوة الدولة في الصمود تجاه مختلف التحديات والرهانات بعيدا عن الشعبوية ولغة الخشب التي لا تسمن ولا تغني من جوع .