لم يكن للجزائر وهي ترسخ وجودها على الساحة العالمية كقوة ثورية لم يتعد عمر استقلالها اثنتي عشر سنة تعلم أن القدر يصيبها في اعز نخبتها الإعلامية من كافة الوسائل المرافقة للرئيس بومدين في زيارته إلى فيتنام بتحطم طائرة الانتونوف الفيتنامية مخلفة مقتل ١٥ صحافيا وفنيا مع ٣ من نظرائهم بالبلد المضيف و٣ أفراد طاقم قيادة الطائرة الملعونة.
كان ذلك في ٨ مارس ١٩٧٤ وحينها حققت الجزائر ولا تزال سطوتها في إشاعة مناخ السلام في العالم الذي أطلت عليه مع فجر الاستقلال بعد صراع مرير وعنيف مع الاحتلال الفرنسي الغاشم.
نزلت الجزائر المتألقة من خلال رئيسها وثورتها التحريرية على ارض فيتنام التي كابدت هي الأخرى عنف حرب ضد الوجود الاستعماري الأمريكي وقبله الفرنسي لتتعانق الثورتان في مشهد تضامني في خدمة القضايا العادلة والتحريرية وإرساء تضامن دولي قائم على حقوق الشعوب في تقرير المصير وإنهاء حقبة الاستعمار ونهب الثروات.
تلك الحادثة عززت حالة من التضامن بين البلدين في التوجه إلى تحقيق الأهداف السامية لتمكين الشعبين من الحق في التنمية الاقتصادية والاجتماعية وممارسة الحقوق المشروعة على غرار الحق في الإعلام الذي كان في تلك المرحلة يؤدي وظيفة نبيلة تتجاوز إطار التطلعات الفردية أو الفئوية بقدر ما كانت امتدادا لرسالة الثورة بترسيخ المفاهيم النوفمبرية ذات الدلالات وخيارات الدولة الحاسمة بكل الجدل الذي أفرزته ولا يزال بشأن ملفات ترتبط بالمجتمع.
كان ذلك الفريق الإعلامي الذي أرادت مشيئة الله عز وجل أن يقضوا ببلد صديق ملتزما بأداء الرسالة الإعلامية بالمفهوم الثوري ويتميزون مثلما أوردته شهادات عديدة بـ«منتدى الشعب» أمس بأخلاق عالية وإرادة في العمل لا تحدها صعوبة وحماسة قوية في نكران الذات وهي خصال وقيم ما أحوج المهنة إليها في كل الأزمان وبالذات في هذا الظرف الذي يجب أن يكون فيه الوطن اكبر من أي اعتبار وان المهنية هي المعيار وفقط.
أولئك الصحافيين والفنيين من مختلف الوسائل الإعلامية سجلوا أسماءهم بما لا يمحوه الزمن وستبقى ساطعة في سماء الإعلام الوطني مثلا للأجيال مخلدة الوفاء للوطن وحمل قضاياه مهما كانت الظروف مريحة أو قاسية لا يدركها إلا من هم في معركة الكلمة يحترفون مهنة المتاعب ليست المادية فقط ولكن المتاعب المتصلة بالفكر والموقف والقناعات المختلفة والحرص على فرض المبادئ في الضمير الجمعي للأمة ومكافحة الحيف والجور والاستغلال والفساد على كافة المستويات.
لقد كان الوقع كبيرا على نفسية الراحل هواري بومدين مثلما أكده مستشاره الإعلامي محي الدين عميمور الذي أضاف انه تأثر أيما تأثرا وهو يفقد رجالا أوفياء كما كشف له عن قناعته بدور وقيمة الكلمة والصورة الصادقة الحاملة لقيمة إنسانية بحجم ثقل ثورة التحرير المجيدة امتزج فيها إلى النخاع فاعلا في جيش التحرير الوطني ومناضلا في صفوف الجماهير.
كانت في تلك المرحلة لحمة متماسكة وملتفة حول أهداف الثورة التي دفعت بالجزائر إلى مقدمة العالم من خلال مواقف ثابتة ومؤسسة لا تتأثر بالظرفية ولكن أيضا من خلال قوة الاقتراح لبرامج تساهم في تصحيح معادلة التنمية في العالم وأبرزها طرح تصور النظام العالمي الجديد.
وبلا شك انه بفضل تلك النخبة من الصحافيين جيلا بعد جيل منذ أولى خطوات إعلام الثورة أمكن ترسيخ توجهات الجزائر المستقلة وشد المجتمع إليها بملأ الفراغ وترويج الكلمة الراقية وإزالة موروث استعماري يشكك في الذات. وكم هو سهل أن تنتج إعلاما تنتهي صلاحيته سريعا وكم هو صعب أن تنتج إعلاما يستمر في الزمن ويؤرخ لمجتمع بكافة أطيافه يكرس الحرية في المجتمع ولكنه لاذع في صد مؤامرات وتهجمات الخارج .