أكد الدكتور يوسف بلمهدي ـ مدير التوجيه الديني والتعليم القرآني بوزارة الشؤون الدينية والأوقاف ـ أن الجزائر عرفت العديد من الهجمات والحملات التشكيكية مسّتها في صلب هويتها الوطنية، لاسيما في تاريخها ومرجعيتها الدينية، ما خلق جوا من عدم الثقة في الموروث الحضاري، وعزز ذلك الانفتاح على العالم الخارجي، إلا أن المسألة زادت حدة في الآونة الأخيرة بدخول أفكار شاذة وجدت لها مرتعا لاسيما لدى الشباب غير المطلع الذي يجد نفسه يتلقاها دون تمحيص وتحليل لغاياتها وأهدافها، فأحدث نوعا من الاهتزاز في هويته ووجد نفسه ضائعا بين الإرث والحداثة بما تحمله من إيجابيات وسلبيات.
هي نقاط ناقشناها مع الدكتور يوسف بلمهدي لمعرفة الأسباب الكامنة وراء تنامي الظاهرة والآليات الكفيلة للتصدي لها.
- الشعب»: يجد الجيل الجديد بالجزائر نفسه ضائعا بين ما يستقبله من أفكار وما خلفه أجداده من مرجعية دينية وتاريخية شككته حتى في هويته الوطنية، كيف ترى الحالة السائدة؟
@@ الدكتور يوسف بلمهدي: يجب أن لا تكون لدينا نظرة سوداوية، لأنه علينا أن ندرك أن الجزائر تعرضت لهزات عنيفة منذ دخول الاستعمار الفرنسي، حيث بدأ التشكيك في الهوية الوطنية وفي التاريخ وحضارة الشعب الجزائري وإسلامه ودولته، ولكن بعد ١٣٠ سنة لم تفلح فرنسا في هذا المشروع، حيث استطاعت أن تزرع الشك في الجزائري في أنه لا يمكن أن يكون له مشروع متمدن حضاري، وبأنه ليس له تاريخ ولا يملك لغة تسعفه، والتشكيك حتى في أن الدين الإسلامي لا يمكن أن يخرِّج رجل العصر، لكن ما تجدر الإشارة إليه، هو أن الشعب الجزائري استطاع أن يحافظ على جزء كبير من هويته، بدليل أن الثورات الشعبية هي التي كانت تمد المجتمع برفض هذه الشكوك ورفع الظنون والتغلب عليها وتجاوز المشاريع التدميرية، وحافظ على هويته ولغته وقرآنه ودولته.
- الأمر مفهوم إبان الاستعمار، لكن الظاهرة تنامت أكثر في ظل الدولة الحديثة، وأدى إلى تبني ثقافات أخرى وعزز ذلك الانفتاح على العالم الخارجي، فما هي الأسباب؟
@@ لاشك أن الاستعمار تغيرت صفته في وقتنا الحالي، حيث أن القوى الاستعمارية القديمة بعد خروجها من البلدان المستعمرة ـ كما هو الحال بالنسبة للجزائر ـ عمدت إلى ابتكار طرق أخرى للنفاذ إليها عبر المشاريع الثقافية والفنية والإبداعية التي تسعى إلى تدمير الهوية الوطنية ومحاولة طمسها على الأقل، إلا أن الفعل الثقافي والتربوي والتوجيهي كان بالمرصاد لمثل هذه المخططات الاستعمارية، ونستطيع أن نقول أن اهتزاز الثقة لدى مجتمعنا يعود لأسباب كثيرة أهمها:
ـ خروج الجزائر منهكة ومتعبة من الحقبة الاستعمارية في مجالات كثيرة، لأن فرنسا لم تترك لنا بلدا آمنا في غذائه وفي صحته ولا في علمه وتربيته، فكان على الجزائر أن تبدأ مرحلة البناء، لكن ـ للأسف ـ هناك من يريد إصطحاب حالة الركود والمرض والفقر إلى هذه الأمة في يومنا هذا، ويقول أن الجزائر لم تفعل شيئا.
لتأتي فترة العشرية السوداء، أين دمر كل ما بنته الجزائر وفككت آثارها الأمن الإجتماعي، وزعزت ثقة المواطن في دولته والجزائري في مبادئه وتربيته، حيث جاء من يقول أن إسلام الجزائر مشكوك فيه وغير موثوق به ويجب أن يجدد، وبدأت أولى الخطوات بتشكيك الجزائري في إسلامه، ووصلت الأمور لحد التشكيك في عقود زواج آبائنا وكأنهم لم يتزوجوا على سنة الله ورسوله، وهذا منكر، وهناك من نفى عنا صفة العروبة، رغم أننا إن تحدثنا العربية رقينا لبلاغتهم وكنا أحسن المتحدثين.
- ما الغاية من هذه الحملات التشكيكية التي طالت مرجعيتنا الدينية في ظل الفراغ الذي كان سائدا وتراجع العلماء لبعض الوقت درءا للفتنة؟
@@ مما لاشك فيه أن هذه الحملات المتتالية، تريد زرع أفق أسود لكل من يقرأ تاريخ الجزائر الحديث فيظن أنها ليست على مستوى من الإيمان والتحضر والقدر، ومن ثم تبرز ضرورة تجديد الثقة في علمائنا وأئمتنا، لا سيما وسط الشباب، خاصة وأنه ظهر من يقول أن بلادنا تفتقد لعلماء نجدهم في دول المشرق والخليج العربي من يقبّل أيديهم إجلالا لعلمهم، وكأننا أصبحنا نحتاج تزكية من الخارج بأن فلانا عالما حتى نصدّق علمه.
- هل تعتقد أن هذا راجع لغياب منصب مفتي بالجزائر؟
@@ صحيح أن السعي إلى توحيد المرجعية وتثبيتها بمثل هذه المؤسسات، أمر يخدم الهوية الوطنية والمالكية بالجزائر، ولكن هذا لا يعني أنها بقيت بدون راع نتيجة لفراغ في منصب المفتي، فهناك علماء ومجالس افتاء، وهناك ما يعرف في مناطقنا الداخلية بـ«تاجماعت» في منطقة القبائل و«العزّابة» ببلاد الميزاب، وهي مؤسسات تقليدية موروثة تضم أئمة يتولون حل انشغالات الناس الدينية وحتى الدنيوية وفقا للشرع، ولقد حازت على ثقتهم وساهمت كثيرا في الحفاظ على هويتهم.
فعندما نقول أن المجتمع لا يعترف بالمرجعية الوطنية وليس هناك علماء، فهذا خطر حقيقي ويجب إزالته بالعودة إلى علمائنا وابرازهم، فنحن نحتاج لنفض الغبار عنهم وتوجيه الجامعات وإلى التحقيق في هذه المخطوطات ومراكز البحث لتبرز النشاطات العلمية والفقهية بالجزائر، واستغلال الفرص لهذه الغاية على غرار الجزائر عاصمة الثقافة الاسلامية التي احتضنتها تلمسان، حيث كانت المناسبة فرصة ثمينة للتعريف بما تكتنزه بلادنا، ومن ثم يمكن أن نتصدى لكل مشكك في قدرات الجزائر المادية والمعنوية والدينية وتجاوز النكران لها ونزيحه، ففيها من الخير والمنجزات والعلماء والمرجعيات.
- هل بقاء العلماء على هامش الأحداث، سبب في تعاظم هذه الهجمات؟
@@ المسؤولية يتحملها الجميع، لاسيما الإعلام الذي يقع عليه إبراز العلماء الوطنيين، وتجاوز التركيبات التي تأتي من الخارج لأن هذا بلاء حقيقي، فمن واجبه أن يساهم في وضع المرجعية الوطنية والدفاع عنها، وأن يكون شريكا في رفع التحدي ومرافقا لانشطة المجتمع، فلدينا علماء لم يحظوا بالاهتمام، في حين تداولتهم المجالس والملتقيات الدولية، والأمر ليس مقتصرا فقط، على علماء الدين، بل يتعداه إلى ميدان الطب والهندسة والأدب والشعر وغيرها من المجالات والكفاءات، وكأننا ننكر بضاعتنا ونحتقر جودة منتوجاتنا بما فيها الاقتصادية.
- ماهي الآليات الكفيلة باستعادة الأجيال ثقتها بمرجعيتها وهويتها الوطنية؟
@@ أول خطوة يجب ان نبدأ بها، هي استعادة الثقة بذاتنا وأنفسنا، فيجب أن نثق بأن قدراتنا متساوية وبأن العقل قسمة عادلة بين البشر، والتحلي بالإرادة لأنها القوة الحقيقية، وليس ببعيد عنا فالعبرة نستقيها من آبائنا فلو خنعوا لبقاء فرنسا، لَمَ خرجت من أرضنا، فالشعب لما أراد تحقيق ذلك بفضل من خطط وقرر ونفذ.
من جهة أخرى، يجب تجاوز شعارات الكسل المثبطة للعزائم كـ(راقدة وتمونجي)، (حشيشة طالبة معيشة)، (من الدار للجامع)، (تاخير الزمان)، (احنا علينا دعوة الشر)، (القيامة حتقوم)، لأن هذا الكلام لا يصنع أمة، فما يصنعها هو أن أقول أستطيع أن أبلغ النجوم، فمن خلال الثقة في مقدراتنا لأن الحياة ليس الانتصار على الاستعمار فقط، بل يجب محاربة القابلية له وللعجز والكسل.
- ماهو دور صنّاع القرار في التصدي لهذه الحملات التشكيكية؟
@@ لاشك أن دورهم كبير فمسؤوليتهم تبدأ بنشر العلم، وتوفير كل الأسباب لذلك، من جامعات ومعاهد تكوين متخصصة لأنه بعد تحقيق الكم لابد من التوجه نحو الكيف أو النوعية والتخصص والاتقان لصنع وجه آخر للجزائر الحديثة، ونفس الأمر بالنسبة للأئمة عبر الرفع من قدراتهم لتغيير الذهنيات المتحجرة
وإلى جانب ذلك، لابد من احتضان الإبداع فعلى كل المنظومات التربوية والإدارية والتشريعية، أن تساهم في إعطاء فرصة للمبدع ولكل العلماء، وخلق فضاء حقيقي له وفتح الأفق وتيسير الأسباب ومعاملة الإنسان على أساس إبداعاته بمن فيهم الشباب، لأنهم المستقبل، ومن ثم ينبغي أن تناط بهم مسؤولية الابداع والتنمية والتسيير، ونؤمن بأن السيل من قطرة والسير من خطوة والبساط الكبير من خيط واحد، وهي أمور يجب أن نمكن بها مجتمعنا ونجعل منه فاعلا لا مفعولا به.
- نصيحة أخيرة للشباب:
@@ باعتباره ذخر الأمة، فعلى الشباب العمل في كل المجالات ولايستهين بقدراته وسلوكاته، حتى لو كانت بسيطة كالعمل الجواري، وماعليه إلا بالمبادرة والاجتهاد لأن المبادرة العامل الوحيد الذي يصنع التنمية.