عنصرية متفاقمــة وخطـاب سياسي في الحضيـض

اليمين المتطرف يفضحُ عيوب النظام الفرنسي

علي مجالدي

استمـرار سياسـات التمييــز الممنهـج ينخــر قيـم الجمهوريــة

تتجلى في فرنسا اليوم، أزمة الخطاب السياسي بأبشع صورها في صعود خطاب اليمين المتطرف الذي لا يتردد في إعادة إنتاج عقده التاريخية تجاه الجزائر، وكأن عقارب الساعة عادت إلى زمن ما قبل 1962.

المشهد لم يعد مقتصرًا على السجال السياسي التقليدي، بل تحوّل إلى حملة منظمة تستهدف الجزائر دولة وشعبًا، وتوظفها كأداة دعائية لخدمة مشروع سياسي يقوم على التخويف من الآخر، سعياً للوصول إلى السلطة عبر صناعة عدو خارجي وشيطنة الجالية الجزائرية في فرنسا. هذه الجالية، التي تشكل جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي الفرنسي، تحولت في خطابات هؤلاء إلى «ورقة ضغط» و»وسيلة ابتزاز»، في تناقض صارخ مع مبادئ حقوق الإنسان التي تدعي فرنسا الدفاع عنها.
في سياق متصل، تتجلى خطورة هذا النهج في التصريحات الأخيرة للوزيرة الفرنسية السابقة نويل لونوار على قناة CNews، حينما عممت بلا تردد بأن «ملايين الجزائريين» في فرنسا يشكلون خطرًا كبيرًا. هذه العبارة، التي لم تلق اعتراضًا من مقدمة البرنامج، أثارت موجة استياء واسعة دفعت عشرات المواطنين والباحثين والناشطين إلى توجيه رسالة مفتوحة نشرتها صحيفة لومانيتي، دعوا فيها إلى فتح تحقيق فوري بشأن هذا الخطاب العنصري والتحريضي. والرسالة لم تكن مجرد تعبير عن غضب، بل وثيقة سياسية وأخلاقية تذكر فرنسا بأن وصم جالية بأكملها هو انتهاك لكرامة ومساواة ملايين الأشخاص، واستمرار لسياسات التمييز الممنهج الذي ينخر قيم الجمهورية.
علاوة على ذلك، يتضح أن هذا التصعيد اللفظي ليس معزولًا عن تاريخ طويل من الصراع النفسي والسياسي بين اليمين المتطرف والجزائر. فمنذ الاستقلال، لم يتقبل هذا التيار خسارة «الجزء المفقود من الإمبراطورية»، وتحولت الجزائر إلى رمز لهزيمة استعمارية لم تُمح من الذاكرة. اليوم، يعاد استدعاء هذه العقدة في ثوب جديد، تحت شعارات «الأمن» و»الهوية» و»حماية الحدود»، بينما الحقيقة أن المستهدف هو تصفية حسابات تاريخية وتوظيف الحنين الاستعماري كأداة انتخابية.
بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن إغفال أن العديد من الأصوات الفرنسية المعتدلة ترفض الانخراط في هذه الحملة، بل وتدينها علنًا. ومن بين هؤلاء الصحفي المخضرم جون ميشال آباتي، الذي لم يتردد في التذكير بأن فرنسا ارتكبت مجازر مروعة في الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية، مجازر لا يمكن القفز عليها أو إنكارها إذا ما أرادت فرنسا مواجهة ماضيها بشجاعة. ويمثل هذا الصوت وغيره تيارًا فرنسيًا يؤمن بأن بناء علاقة ندية ومحترمة مع الجزائر يمر عبر الاعتراف بالحقيقة، لا عبر صناعة الأكاذيب.
في نفس السياق، تتبنى الجزائر سياسة خارجية رصينة تقوم على المعاملة بالمثل والندية، وترفض الانجرار وراء الحلول السهلة أو التنازلات المجانية. فالموقف الجزائري واضح، لا مجال لقبول الابتزاز السياسي، ولا للتعامل الانتقائي مع الاتفاقيات الثنائية. وإذا كان وزير الداخلية الفرنسي المتطرف روتايو يعتقد أن بإمكانه التنصل من التزامات فرنسا الدولية وفق أهوائه الشخصية، فإن الرد الجزائري هو الرفض القاطع. فالتعاون القضائي، مثلًا، ليس منّة ولا ورقة تفاوضية، بل التزام قانوني وأخلاقي يجب احترامه من كلا الطرفين.
كما أن محاولة استخدام الإعلام الموجه، مثل بعض برامج CNews، في إعادة إنتاج صور نمطية مغلوطة عن الجزائريين، لم تعد تمر مرور الكرام. الحملة الحقوقية الأخيرة ضد تصريحات لونوار أثبتت أن في فرنسا نفسها من يقف في وجه هذا الانحدار، مطالبًا بفرض العقوبات المنصوص عليها في القانون على كل من يروّج للكراهية أو العنف، حتى وإن كان من النخبة السياسية السابقة.
ويتجلى بشكل واضح، أن المعركة هنا ليست فقط بين الجزائر واليمين المتطرف، بل بين رؤيتين لفرنسا نفسها: رؤية منغلقة، غارقة في أوهام التفوق الاستعماري، ورؤية أخرى تؤمن بالندية والاحترام المتبادل وتدرك أن علاقة باريس بالجزائر ليست عبئًا بل فرصة. وفي قلب هذه المعركة، تثبت الجزائر مرة أخرى أنها قادرة على الدفاع عن مصالحها، وأنها ترفض أن تكون شماعة يعلق عليها اليمين المتطرف فشله في معالجة أزمات فرنسا الداخلية، من الاقتصاد إلى الأمن.
وإذا كان هذا التيار يظن أن استدعاء الماضي الاستعماري وتضخيم الخوف من الجالية الجزائرية يمكن أن يشكل طريقًا ممهّدًا إلى السلطة، فإن الواقع يظهر أن مثل هذه الأساليب لم تعد تلقى القبول نفسه كما في السابق. فهناك في فرنسا اليوم من يدرك أن العلاقات مع الجزائر يجب أن تبنى على الصراحة والشراكة، لا على الابتزاز والشيطنة. والجزائر من جهتها، متمسكة بموقفها الثابت: الاحترام المتبادل، الحزم في الدفاع عن الحقوق، والاستعداد الدائم للحوار على أساس المساواة، لا على أساس وصاية متخيلة انتهت منذ زمن بعيد.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19850

العدد 19850

السبت 16 أوث 2025
العدد 19849

العدد 19849

الخميس 14 أوث 2025
العدد 19848

العدد 19848

الأربعاء 13 أوث 2025
العدد 19847

العدد 19847

الثلاثاء 12 أوث 2025