قوّة المواقف الجزائرية من قوّة التزامها الثّابت بحقوق الشّعوب
خطاب سياسي حصيف متماسك تجاه القضايا التّحرّرية
تحل الذّكرى الـ 63 لاستقلال الجزائر لتستحضر أحد أبرز أعمدة المشروع الوطني منذ نشأته متمثّلا في الدبلوماسية الجزائرية باعتبارها امتدادا لفكرة التحرر، لا كأداة لتسيير العلاقات فقط، إذ لم تكن مداخلات السّفير عمار بن جامع، ممثّل الجزائر الدائم لدى الأمم المتحدة، بشأن الوضع في فلسطين خلال عديد المرات بمجلس الأمن، مجرّد موقف ظرفي، بل تأكيدا ميدانيا لاستمرارية نهج دبلوماسي تأسس في قلب معركة الاستقلال، وتطوّر ليواكب تحولات النظام الدولي دون أن يفرّط في ثوابته.
في كلمته التي جاءت في خضم العدوان الصهيوني المستمر على قطاع غزة منذ أكتوبر 2023، دعا بن جامع في اجتماع مجلس الأمن الأخير إلى وقف فوري لإطلاق النار، مشدّدًا على أن ما يجري لم يعد مجرد نزاع سياسي، بل جريمة ترتكب يوميًا بحق شعب يُحرم من حقه في الحياة والكرامة. وما يلفت الانتباه في هذا الموقف الجزائري ليس لغته فقط، بل توقيته ودقّته، حيث تزامن مع تآكل واضح في المواقف الدولية، وصمت بعض العواصم المؤثّرة عن الانتهاكات اليومية المرتكبة في حق الفلسطينيين. وقد أصرّ بن جامع على وصف سياسة التجويع التي تطال سكان غزة بأنها “جريمة حرب”، مؤكّدًا على مسؤولية مجلس الأمن في التحرك الحازم، وإلا فإنّ شرعيته تصبح موضع مساءلة.
وهذا الخطاب الذي قد يبدو للمتابع العادي موقفًا منسجمًا مع الدعم التقليدي للقضية الفلسطينية، يتجاوز من الناحية التحليلية منطق التضامن العاطفي، ليعكس بنية عميقة للدبلوماسية الجزائرية وهي التلازم بين السيادة الوطنية والدفاع عن الشرعية الدولية وحقوق الشعوب. فالدبلوماسية الجزائرية، التي تأسّست من رحم الثورة، لا تنطلق من عقائد أيديولوجية مغلقة، بل من فهم استراتيجي لمعنى التحرر كقيمة إنسانية كونية. وفلسطين، في هذا السياق، ليست مجرد ملف من بين آخرين، بل هي مرآة مستمرة لامتحان التزام العالم بمبادئ القانون الدولي.
وفي السّياق، لا يمكن فصل هذا الموقف عن الإرث الدبلوماسي الذي صنعته الجزائر منذ مطلع الاستقلال، حين انخرطت في دعم حركات التحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، معتبرة أنّ معركتها ضد الاستعمار الفرنسي لم تكن قضية وطنية فقط، بل حلقة من حلقات الصراع العالمي ضد التوسع والاستعمار الحديث. وقد ربطت الجزائر، منذ مؤتمر باندونغ وحركة عدم الانحياز، بين استقلالها الداخلي والتزاماتها الخارجية، مستندة إلى الشرعية الثورية التي تحولت لاحقًا إلى شرعية دبلوماسية فاعلة.
تحـــوّلات الأداء وثبـــات المرجـــــع
إنّ الحفاظ على المواقف المبدئية في السّياسة الخارجية اليوم في في سياق دولي يشهد مزيدا من التراجع في دور المؤسسات متعددة الأطراف، وتفاقم ازدواجية المعايير، يعد عملاً صعبًا وغير مضمون الكلفة. ورغم ذلك، فقد حافظت الجزائر على خطاب سياسي متماسك تجاه القضايا التحررية، وفي مقدّمتها فلسطين، دون أن تنعزل أو تكتفي بالشّجب. بل تحرّكت داخل المؤسّسات الأممية، وضمن تكتلات متعدّدة الأطراف، وطرحت مبادرات أبرزها “إعلان الجزائر” للمصالحة الفلسطينية في أكتوبر 2022 ولم الشمل، ومحاولات الدفع بالعديد من مشاريع القرارات لحماية المدنيين في غزة خلال عضويتها الحالية في مجلس الأمن.
علاوة على ذلك، فإنّ تمسّك الجزائر بهذا المبدأ، في وقت تشهد فيه المنطقة تحوّلات جذرية في اتجاهات التطبيع مع الاحتلال، يعكس قدرة على صياغة سياسة خارجية مستقلة، لا تخضع للإكراهات الآنية. كما أنّ الربط الدائم الذي تقوم به الجزائر بين القضيتين الفلسطينية والصحراوية يندرج ضمن مفهوم شامل لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وليس ضمن منطق الاصطفاف السياسي. فالدفاع عن الشرعية الدولية لا يُجزّأ، ولا يمكن أن يكون انتقائيًا حسب طبيعة الاحتلال أو مصالح القوى الكبرى.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الأداء الدبلوماسي الجزائري في المرحلة الحالية أصبح أكثر نضجًا واحترافية، حيث يوازن بين المبادئ التاريخية ومتطلبات البراغماتية الحديثة، دون الانزلاق إلى التنازل أو الخطاب الانفعالي. ومواقفها من النزاع الداخلي في السودان، وأزمة مالي، أو رفض التدخل العسكري في النيجر، كلها تعكس التزامًا بثقافة الحلول السياسية السلمية دون التفريط في السيادة أو القيم التحررية.
كما أنّ مواقف الجزائر من القضايا التحررية لا يمكن فصلها عن رؤيتها الأوسع للعلاقات الدولية. فهي تؤمن بأن العالم لا يمكن أن يستمر على أساس هيمنة أحادية، وأن التعددية ليست فقط تعددًا في الأصوات، بل في المبادئ التي تحكم التفاعل بين الدول. ومن هذا المنطلق، تدافع الجزائر عن فكرة إعادة هيكلة النظام الدولي، بما يسمح بتمثيل أفضل للجنوب، ويُعيد الاعتبار للمسؤولية الجماعية في حفظ السلم والأمن الدوليين.
كما تُدرك الجزائر أنّ الدفاع عن فلسطين، أو عن الصحراء الغربية، هو في الآن ذاته دفاع عن منطق القانون، وعن فكرة أن الشعوب لا يجب أن تُترك لمصيرها في مواجهة القوة. كما تُدرك أن هذا الخيار ليس سهلًا في عالم تقوده الحسابات الاقتصادية والتحالفات المتغيرة، لكنّها في المقابل تراهن على شرعية مواقفها، وعلى استثمار رصيدها التاريخي لتكريس موقعها كقوة دبلوماسية مبدئية وفعالة.
وبهذا المعنى، لا تكتفي الجزائر بالاحتجاج على الظلم، بل تطرح بدائل ومقاربات واقعية، قوامها احترام السيادة، والتمسك بالقانون الدولي، ورفض أي شكل من أشكال الاحتلال، أيا كان الفاعل أو المبرر.
استقلال يتجدّد في الذّاكرة والموقــف
كذلك، فإنّ إحياء ذكرى الاستقلال لا يعني فقط استحضار البطولات الماضية، بل أيضًا مساءلة الحاضر حول مدى وفاء الدولة لروح التحرر التي انطلقت منها. وفي هذا الصدد، لا تزال الدبلوماسية الجزائرية والتي يقودها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون تقدّم نفسها كأحد أبرز تجليات هذا الوفاء، حيث لم تنزلق إلى الخطابات المتقلبة أو الرهانات الظرفية، بل واصلت الدفاع عن الحق والكرامة والاستقلال، سواء تعلق الأمر بفلسطين أو غيرها من القضايا التي لا تزال مطروحة في الأجندة الدولية.
وفي عالم مضطرب، تبدو الجزائر، رغم كل الصّعوبات، أحد الأصوات القليلة التي تذكر المجتمع الدولي بما يمكن أن تكون عليه الدبلوماسية حين تكون لها ذاكرة، وحين تكون متجذّرة في تجربة نضال حقيقي. ومن هنا، فإن عيد الاستقلال، في بعده السياسي، هو أيضًا مناسبة لإعادة تأكيد أن الاستقلال لا يُقاس فقط باسترجاع الأرض، بل بالقدرة على اتخاذ موقف حرّ، في لحظة صمت، أو لحظة انحياز جماعي إلى الظلم.