رؤية استراتيجية سطّرها بيان نوفمبر..الأستاذ الدكتور نور الدين السد يكتب لـ “الشعب”:

فلسفة الاستقلال المستدام وصناعة الأمل

بقلم: أ . د . نور الدين السد

المعرفـــة العلميـة..مــن تراكــم نظــري إلى أداة إنتــاج وقــوّة اقتصاديــة

فلسفــة سياســيــة تـــرى أنّ كرامة الإنسان تبـــدأ مـــن حقـّــه في المعرفـــة

الرّهــــان علـى البحـــث العلمـي والابتكـــار لتحقيـق “الجزائـــر الجديـــدة”

استرجـــاع السّيـادة الوطنيـــة التزام يومــي ببنــاء وطـــن حــرّ وعـــادل

 خمسة يوليو (5 جويلية 1962- 2025)، الذكرى الثالثة والستون لاستقلال الجزائر واسترجاع سيادتها الوطنية، هذا اليوم التاريخي المشهود، ليس مجرد يوم انتصرت فيه الجزائر على استعمار فرنسي مكث طويلا، ودام احتلاله لوطننا المفدى قرنا وربع القرن من الزمان، بل هو إعلان نهج فلسفي شامل قامت عليه ثورة التحرير الجزائرية المجيدة، ورؤية استراتيجية سطّرها بيان أول نوفمبر 1954، ترى في الإنسان غاية ووسيلة لكل القيم الإنسانية الخالدة، ولكل تنمية حقيقية، ففي تلك اللحظة التي ارتفعت فيها الرايات الوطنية معلنة يوم الحرية والاستقلال واسترجاع السيادة، في هذا اليوم التاريخي الخالد بدأت الجزائر تؤسّس مشروعها الوجودي الذي يتجاوز تحرير الأرض إلى تحرير العقول والطاقات، ولعل قطاع التربية والتعليم، منذ ذلك اليوم، كان المعبر الأصدق عن هذه الفلسفة؛ لأنه هو الذي يصنع الإنسان الجزائري المستقل في فكره، المبدع في علمه، المتمسك بهويته، والمنفتح على العالم.

 وإذا كان التعليم في بدايات الاستقلال ضرورة لمحاربة الجهل الذي تركه الاستعمار، فقد صار اليوم فلسفة وجودية للدولة الجزائرية، واستراتيجية أمن قومي، ومشروع حضاري عميق، ذلك أن المعرفة لم تعد ترفا، بل أداة للبقاء في عالم تزداد فيه التحديات الاقتصادية والعلمية والثقافية، وتتظافر فيه موازين القوة من مناجم البترول والحديد، إلى مناجم الفكر المبدع،  والعقل المبتكر.
لقد حقّقت الجزائر في مجال التربية والتعليم إنجازات نوعية لا يمكن اختزالها في أرقام المؤسّسات أو نسب التمدرس، رغم أهمية هذه المؤشرات، إنّ أعظم ما حققته الجزائر، هو نقل التعليم من مجرد عملية تلقين، إلى مشروع اجتماعي يرمي إلى بناء مجتمع متوازن، قادر على إنتاج ذاته بنفسه، وهذا إنجاز فلسفي قبل أن يكون تربويا أو إحصائيا.
ففي الطور الابتدائي، كان الرهان الأول هو أن لا يُحرم أي طفل جزائري من مقعد دراسي، ولهذا أصبحت المدرسة الجزائرية حاضرة حتى في أقاصي الصحراء وفي أعالي الجبال، في المناطق التي كانت تسمّى “مناطق الظل”، والتي حظيت في عهد رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، بعناية استثنائية، ليس فقط في البنى التحتية، بل في الفلسفة العميقة التي ترى أن كرامة المواطن تبدأ من حقه في التعليم اللائق، وفي العيش الكريم مهما كان موقعه الجغرافي، وقد تجلّت هذه الإرادة السياسية في بناء مؤسسات التربية والتعليم، وتوفير النقل المدرسي، والوجبات الغذائية، والكتب المدرسية المجانية، لتصبح المدرسة ليس فقط مكان تعلم، بل فضاء عدالة اجتماعية ومساواة وطنية.
في التعليم المتوسط والثانوي، انتقلت الجزائر من مجرد تأمين المقاعد الدراسية، إلى تطوير المناهج لتكون أكثر انسجاما مع الواقع الوطني والآفاق العالمية، لقد صار من غير المقبول أن يُلقَّن التلاميذ معرفة لا علاقة لها بسوق العمل أو بحاجات المجتمع أو بمتطلبات العصر الرقمي، ولهذا شهدت المناهج تعديلات متتالية، رغم ما رافقها أحيانا من جدل، لأنّ الجزائر تبحث عن التوازن الدقيق بين هوية الأمة، وحاجات التطور التكنولوجي والاقتصادي.
أمّا في التعليم العالي، فقد تحقّقت ثورة حقيقية، فمن جامعة واحدة غداة الاستقلال، صارت الجزائر تملك اليوم منظومة جامعية هائلة تضم عشرات الجامعات والمراكز الجامعية والمدارس العليا، تنتشر في كل الولايات، لتؤكّد أن العلم لا يُركّز في العاصمة وحدها، بل هو حق لجميع أبناء الوطن، ولا يمكن الحديث عن هذه الإنجازات دون الإشادة بالرؤية الجديدة التي حملها السيد الرئيس عبد المجيد تبون، الذي يراهن على البحث العلمي والابتكار باعتبارهما الطريق الوحيد لتحقيق “الجزائر الجديدة”، ويضع الجامعات في قلب مشروع اقتصاد المعرفة والتنمية الشاملة.
لقد صار التعليم العالي في الجزائر اليوم ليس فقط فضاء لتلقين المعارف، بل مختبرا للابتكار، وشريكا في تطوير الاقتصاد الوطني، ومع ذلك تعترف الدولة الجزائرية أن هذا القطاع يواجه تحديات حقيقية، أبرزها ضرورة ربط البحث العلمي بسوق العمل، وتحويل الجامعات إلى حواضن للابتكار، وتقليل الفجوة بين التكوين الجامعي وحاجات الاقتصاد الرقمي، وهذا هو رهان الجزائر القادم؛ أن تتحوّل المعرفة من تراكم نظري، إلى أداة إنتاج وقوة اقتصادية.
التكوين المهني والتقني في الجزائر هو الآخر يعيش تحولات عميقة، إذ انتقل من تصور قديم يرى فيه “مسارا لمن لم ينجح في الدراسة”، إلى فلسفة ترى فيه طريقا محترما لإنتاج الكفاءات، وخزانا أساسيا لسوق العمل، وقد سعت الدولة إلى تطوير هذا المسار بإنشاء مؤسسات تكوين حديثة، واعتماد تخصصات جديدة ترتبط مباشرة بالاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجددة، والصناعات الذكية، وهو توجه استراتيجي يعبر عن فهم عميق لدى صانع القرار الجزائري لطبيعة التحولات العالمية.
إنّ فلسفة التربية والتعليم والتكوين في الجزائر اليوم تقوم على إدراك حقيقة أساسية؛ أن الاستقلال الحقيقي لا يُقاس فقط بامتلاك القرار السياسي أو الموارد الطبيعية، بل بامتلاك الإنسان العارف، المتعلم، الحرّ في تفكيره، المؤمن بقدراته، ولهذا صار التعليم في الجزائر مشروع سيادة وطنية، وحصن أمان اجتماعي، وشرطا ضروريا لأي مشروع اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي أو سياسي.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن أحد أعظم إنجازات السيد الرئيس عبد المجيد تبون، ليس فقط اهتمامه بتوسيع قاعدة التعليم، بل ربطه التعليم بفلسفة العدل الاجتماعي والكرامة الوطنية، إذ لم يكتف الرجل بتطوير المدارس والجامعات في المدن الكبرى، بل جعل من ترقية مناطق الظل شعارا عمليا، ترجمه في مشاريع ملموسة؛ بناء مدارس جديدة، مد شبكات الأنترنت، تطوير النقل المدرسي، وتحسين حياة المواطن في القرى والهضاب والجبال والصحراء،  وهذه ليست فقط مشاريع عمرانية أو تربوية، بل هي فلسفة سياسية ترى أن كرامة الإنسان تبدأ من حقه في المعرفة، والعيش الكريم.
ومن الناحية الفلسفية، يكتسب التعليم في الجزائر بعدا استراتيجيا عميقا، ذلك أن الجزائر تدرك أن العالم صار ساحة صراع معرفي قبل أن يكون صراعا اقتصاديا أو عسكريا، وأن الأمم التي تملك المعرفة والابتكار هي التي تفرض شروطها، ولهذا فإن إصلاح التعليم لم يعد خيارا سياسيا، بل ضرورة وجودية، لأن البديل عن التعليم الجيد؛ سيكون هو التخلف، والبطالة، والتطرف، وكلها أخطار تهدد أي مشروع وطني.
التحديات ما زالت كبيرة، فمن جودة التعليم، إلى رقمنة المنظومة التربوية، إلى تحسين تكوين الأساتذة، إلى ربط الجامعة بالصناعة، إلى تدريس اللغات الأجنبية دون المساس بالهوية الوطنية، لكن الجزائر اليوم تدخل هذه المعركة بروح جديدة، بروح ترى في التحديات فرصا، وفي الصعوبات محفزات، وقد عبّر السيد الرئيس عبد المجيد تبون أكثر من مرة عن هذه الروح، حين أكد أن الجزائر لن تكون إلا قوية بأبنائها، وأن مشروع الجزائر الجديدة لا يمكن أن يتحقق إلا بمدرسة وجامعة قوية، عادلة، مواكبة للعصر، قادرة على حماية الهوية الوطنية، وفي الوقت نفسه قادرة على الإبداع والانفتاح.
إنّ الأمل كبير، لأن الجزائر ليست بلدا عاديا، إنها أمة دفعت ثمنا غاليا مقابل استقلالها، وتملك من الرصيد الحضاري والطاقات البشرية ما يجعلها قادرة على كسب معركة التعليم والبحث العلمي، والأمل اليوم يتجلى في كل طفل يجلس في قسم دراسي نظيف في أعالي الأوراس أو أعماق الصحراء، وفي كل باحث جزائري يعمل في مخبر علمي ليصنع دواء جديدا أو تكنولوجيا جديدة، وفي كل معلم يقف شامخا ليزرع حرفا، وينير معرفة في عقول أبنائنا.
وهكذا يبقى التعليم في الجزائر أكثر من قطاع وزاري، إنه مشروع وطني جامع، وأفق فلسفي مفتوح، ورهان الجزائر لكي تظل مستقلة، قوية، سيدة قرارها، معتزة بهويتها، منفتحة على العالم.
وفي عيد الاستقلال، يصبح الاحتفاء الحقيقي باسترجاع السيادة الوطنية، هو الاحتفاء بكل مكتسب تعليمي، وكل فكرة مبتكرة، وكل طفل يذهب إلى مدرسته رافعا رأسه، مؤمنا بأن الجزائر قادرة على صناعة مستقبلها بنفسها.
إنّ ذكرى استقلال الجزائر واسترجاع السيادة الوطنية ليس ذكرى عابرة، بل التزام يومي بصناعة وطن متعلّم، حرّ، عادل، ولهذا سيظل التعليم في الجزائر الطريق المثالي والسبيل الأنجع إلى الحرية الدائمة، وإلى صنع المستقبل، وبناء وطن يليق بشهدائه، ويفتخر به أبناؤه في كل العصور.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025
العدد 19811

العدد 19811

الثلاثاء 01 جويلية 2025
العدد 19810

العدد 19810

الإثنين 30 جوان 2025