علاقات تتأرجح بين منطق الحكمـة ومرض الانفعـال

اليمين الفرنسي المتطرّف.. جعجعة بلا طحين!

علي مجالدي

 الجزائر السيّدة أكبر من الوقوع في ملاسنات السياسيين الهواة 

حق الردّ مكفول والمعاملة بالمثل عرفٌ دولي راسخ 

مناورات أحفاد المجرمين “اللّواس” لن تضر قبلة الأحرار شيئا

تتسارع ملامح أزمة متجددة في العلاقات الجزائرية- الفرنسية، غير أن المختلف هذه المرة أن باريس تبدو كأنها تسير بـ«رأسها” نحو “حائط المبكى”، فاقدة البوصلة الدبلوماسية، بينما تحافظ الجزائر، في المقابل، على هدوء الدولة السيدة التي تعرف وزنها، وتُدرك كيف ترد دون حاجة إلى رفع الصوت.. المفارقة لافتة بين دولة فرنسية تغرق في حساباتها الداخلية الضيقة، ومناورات تياراتها المتطرفة، ودولة الجزائر التي تتصرف بمنطق السيادة وتحافظ على استقرار خطابها وسلوكها دون أن تتنازل عن حقها في الرد أو التوضيح.

يبرز الفارق بين منطق الجزائر المتزن القائم على احترام الأعراف الدبلوماسية، وبين انفعالية فرنسية غير مفهومة، “تشخر” بها دوائر رسمية فقدت توازنها.. باريس التي تُفترض فيها الخبرة في إدارة الملفات الخارجية، أظهرت في -السنوات الأخيرة- تراجعًا واضحًا في الأداء السياسي، وبدل أن تعتمد لغة التفاهم المبني على المصالح المشتركة، أصبحت تنجرف خلف ردود الفعل المتوترة، وتبني مواقف لا تراعي التاريخ ولا الجغرافيا ولا احترام الآخر..
أمام هذا النزق “الطفولي”، حافظت الجزائر على موقعها كدولة وازنة، تتصرف وفق ما تمليه مصالحها، وترفض أن تكون طرفًا في أي لعبة إقليمية لا تخدم استقرار المنطقة ولا سيادة الشعوب.
ولقد أشارت برقية نشرتها وكالة الأنباء الجزائرية، الخميس المنصرم، إلى مواصلة “الدوائر الفرنسية تسيير العلاقات الجزائرية- الفرنسية عبر تسريباتٍ منظّمة بمنتهى الارتجال وسوء الحنكة، دون إظهار أدنى ما يقتضيه المقام من تدارك وتصحيح للمسار”.
جاءت البرقية بعد ما نشرت صحيفة “لكسبرس” خبرا عن مصادرها، مفاده أن السلطات الفرنسية قد تكون بصدد التحضير لقرار يقضي بـ«تجميد أصول مسؤولين جزائريين ردًّا على رفض الجزائر استقبال رعاياها الصادر بحقهم أوامر بمغادرة الأراضي الفرنسية”. وتُشير هذه التسريبات أيضًا، إلى العمل على “تجميد ممتلكات مسؤولين جزائريين في فرنسا، من خلال منعهم من الوصول إلى عقاراتهم أو ممتلكاتهم الأخرى.. وفي هذه القضية بالذات، تقول الجزائر، شعبًا وحكومةً ومؤسسات، لهؤلاء: “تفضلوا ونفذوا ما تتحدثون عنه!”.
وفي كلام وجهته إلى هؤلاء الذين يقفون حقيقةً وراء هذه التهديدات التي لا يمكن أن تثير من جانب الجزائر سوى الازدراء واللامبالاة، قالت: “عليهم أن يدركوا الحقيقة: حقيقة أنهم لا يخاطبون الجزائر الحقيقية، بل جزائر أخرى لا توجد إلا في مخيلتهم، أي تلك الجزائر التي لا يستطيعون وصفها إلا بمصطلحات، مثل “النظام”، “السلطة”، “كبار النافذين”، أو “النخبة الحاكمة”، فهذه الجزائر لا وجود لها إلا في أوهامهم وتصوراتهم الجنونية. أما الجزائر الحقّة، وليس الجزائر التي تُغذي خيالاتهم، فهي مختلفة تمام الاختلاف.. هي الجزائر التي طلبت من فرنسا تفعيل آليات التعاون القضائي في إطار قضايا “الممتلكات المكتسبة بطرق غير مشروعة”، دون أن تلقى أي استجابة تذكر، وهي الجزائر التي وجهت إلى العدالة الفرنسية واحدًا وخمسين إنابة قضائية دولية، لم تحظ بأي رد يذكر.. وهي الجزائر التي طلبت كذلك من فرنسا تسليم العديد من الأشخاص المُدانين بالفساد وسرقة وتبديد ونهب الأموال العامة، دون أن تجد أي تجاوب يذكر.
وتحدثت الوكالة الرسمية عن انحدار غير مسبوق لفرنسا في تسيير علاقتها مع الجزائر- إذ لم تبلغ يومًا هذا الدرك السحيق. ولم يسبق لها أن لامست هذا الحد من الهواية والارتجال، ولم تبلغ قط من قبل هذه القمة في انعدام الجدية.. ومرةً أخرى، تحمل كل هذه الممارسات بصمة مميزة لمسؤولين فرنسيين لا يجدون في الجزائر سوى الزاد لمسيرتهم السياسية.
المتابع لتصريحات بعض المسؤولين الفرنسيين، برأي مراقبين، يكتشف حجم الانفصال عن الواقع، حيث لجأ بعضهم إلى التهديد بوسائل لا يملكونها أصلاً، مثل قطع مساعدات اقتصادية لا وجود لها في علاقات البلدين، أو تصوير تعليق امتياز السفر بجواز دبلوماسي دون تأشيرة وكأنه عقوبة، في حين أن هذا الامتياز كان مطلبًا فرنسيًا منذ ثمانينيات القرن الماضي، وجرى اعتماده سنة 2007 بعد مساعٍ فرنسية مكثفة.
وسعت بعض الدوائر السياسية في فرنسا، وعلى رأسها تيارات اليمين المتطرف، إلى تصدير فشلها الداخلي عبر إثارة ملف الهجرة، متخذين من الجالية الجزائرية والمسلمين عمومًا ورقة ضغط انتخابي، وهو ما عبّر عنه السياسي الفرنسي دومينيك دو فيلبان حين حذّر من الإفلاس السياسي الذي يدفع البعض نحو اختلاق عدو وهمي بدل مواجهة الأزمات الحقيقية.
الجزائر، في المقابل، لم تكتف بالموقف المتزن، بل أثبتت أنها قادرة على اتخاذ قرارات حازمة حين تقتضي المصلحة ذلك، وعبّرت بشكل واضح عن رفضها لأي تدخل أو إملاءات، سواء في تصريحات مسؤوليها أو في الإجراءات التي اتخذتها في ملفات عدة.
ولعل ما تؤكده الجزائر، في كل محطة، هو أنها لا تقبل التعامل معها بمنطق الوصاية، ولا تسمح بأن يُختزل حضورها في المنطقة ضمن مقاربات أمنية ضيقة. بالإضافة إلى ذلك، تستند السياسة الجزائرية إلى رؤية استراتيجية تُعلي من شأن الشراكات المتوازنة، وترفض أي تدخلات من شأنها تهديد الاستقرار في شمال إفريقيا أو الساحل، وهو ما يجعلها طرفًا إقليميًّا أساسيّا لا يمكن تجاوزه.
علاوة على ذلك، فإن الخطاب الفرنسي لا يمكن فصله عن الوضع الداخلي المهتز، حيث تعاني فرنسا من أزمة مالية خانقة، إذ يتجاوز دينها العام 3.100 مليار يورو مع نهاية 2024، وهو ما يمثل أكثر من 110٪ من الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب عجز سنوي متكرر في الميزان التجاري يزيد عن 150 مليار يورو، حسب بيانات رسمية من وزارة المالية الفرنسية وEurostat.
وفي ظل هذا الوضع، يصبح من الواضح أن بعض السياسيين الفرنسيين يفضلون إثارة معارك خارجية وهمية، بدل مواجهة الانهيارات الهيكلية التي تهدد الداخل.
وتدرك جزائر الشهداء الأبرار، أن الرد الحقيقي لا يكون بالصوت المرتفع، بل بالفعل السيادي المدروس. ولهذا ظلت ترد عبر القنوات الرسمية، وتبني خطواتها بمنطق استراتيجي بعيد عن الانفعال. وإذا كانت قد التزمت أحيانًا بسياسة التريث، فذلك لم يكن تهاونًا، بل تعبيرًا عن نضج سياسي يجعلها تحسن اختيار التوقيت والوسيلة.
على فرنسا مراجعة خطابها وسلوكها تجاه الجزائر، إذا كانت تسعى فعلاً للحفاظ على ما تبقى من علاقة ندّية بين الطرفين. أما جزائر الأحرار، فقد أكدت -بما لا يدع مجالًا للشك- أنها لا تنتظر دروسًا من أحد، وأنها قادرة على حماية مصالحها والدفاع عن كرامتها، والتمسك بشراكاتها وفق منطق الاحترام المتبادل، لا منطق التعليمات أو التهديدات.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19814

العدد 19814

السبت 05 جويلية 2025
العدد 19813

العدد 19813

الخميس 03 جويلية 2025
العدد 19812

العدد 19812

الأربعاء 02 جويلية 2025
العدد 19811

العدد 19811

الثلاثاء 01 جويلية 2025