زغدودي لـ «الشّعب»: المواقف الجزائرية المتوازنة تتيح لها الوساطة العادلة
وسط تصاعد التحولات الجيوسياسية التي تعيد تشكيل ملامح النظام الدولي، تتزايد المؤشرات على أنّ الجزائر قد تجد نفسها في موقع يسمح لها بلعب دور دبلوماسي حاسم في تسوية واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا في الوقت الحالي، وهي الحرب الروسية - الأوكرانية.
في هذا السياق، لم تكن المكالمة الهاتفية الأخيرة بين وزير الشؤون الخارجية والجالية الوطنية بالخارج والشؤون الإفريقية، أحمد عطاف، ونظيره الأوكراني، أندري سيبيا، مجرّد تواصل دبلوماسي عابر، بل جاءت برأي مراقبين في توقيت حساس، تزامنًا مع النقاشات الجارية داخل مجلس الأمن الدولي حول مشروع القرار الأمريكي لإرساء سلام دائم في أوكرانيا، وهو ما يعكس إدراكًا دوليًا متزايدًا لأهمية الجزائر كفاعل دبلوماسي يمكنه المساهمة في هندسة مخرج سياسي للأزمة.
منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، ظلت الجزائر وفية لنهجها الدبلوماسي القائم على التوازن الاستراتيجي، حيث لم تنخرط في معسكرات الاستقطاب ولم تنجرف إلى اصطفافات سياسية قد تحدّ من قدرتها على الوساطة. هذا الموقف الذي يتجاوز كونه مجرّد «حياد إيجابي»، يعكس رؤية أعمق، تتأسس على فهم دقيق لتعقيدات المشهد الدولي، حيث تتشابك المصالح الاستراتيجية بين القوى الكبرى، وترتبط الأزمة الأوكرانية بمحددات أمنية واقتصادية تمتد إلى قلب التوازنات العالمية.
فمن ناحية، تدرك الجزائر أنّ روسيا، التي تربطها بها علاقات تاريخية وثيقة، تعتبر الحرب في أوكرانيا امتدادًا لصراع وجودي يتعلق بأمنها القومي، في ظل تمدّد الناتو إلى حدودها الغربية. ومن ناحية أخرى، تؤمن الجزائر بضرورة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما جعلها تدعو منذ البداية إلى تبني خيار الحوار والمفاوضات بدل الانجرار إلى منطق التصعيد، الذي كاد أن يدفع العالم إلى حافة مواجهة غير محسوبة العواقب. وعرضت الجزائر، قبل سنتين، وبشكل رسمي، استعدادها لقيادة وساطة بين روسيا وأوكرانيا، ولقيت دعوتها استجابة فورية من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال زيارة رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون إلى موسكو سنة 2023.
وساطات ناجحة
ليس جديدًا على الجزائر أن تلعب أدوارًا دبلوماسية بارزة في تسوية النزاعات الدولية، فهي تمتلك رصيدًا من الوساطات الناجحة التي أكسبتها مصداقية سياسية على الساحة الدولية. ولعل من أبرز المحطات التي تعكس هذا الإرث، نجاحها في التوسط للإفراج عن الرهائن الأمريكيّين في إيران عام 1979، وهي أزمة كادت أن تفجّر صراعًا مفتوحًا بين واشنطن وطهران. كما كانت الجزائر حجر الزاوية في اتفاق السلام بين إثيوبيا وإريتريا عام 1999، الذي أنهى نزاعًا استمر لأكثر من عقدين في واحدة من أكثر المناطق حساسية في إفريقيا.
هذا السجل من النجاحات الدبلوماسية يمنح الجزائر مشروعية تؤهّلها للعب دور في الأزمة الأوكرانية، خاصة في ظل تصاعد الحاجة إلى أطراف محايدة يمكنها بناء جسور تفاهم بين موسكو وكييف. وكما تمكنت الجزائر في الماضي من هندسة حلول سياسية لأزمات معقدة، فإنّ موقعها الراهن، كدولة تمتلك شبكة علاقات متينة مع مختلف أطراف النزاع، يمنحها فرصة لإعادة تفعيل دورها كوسيط دولي.
وفي هذا الإطار، يؤكّد الدكتور زغدودي محمد، أستاذ الدراسات الأمنية، في تصريح لـ «الشعب» أنّ الجزائر تمتلك تاريخًا دبلوماسيًا غنيًّا يمكنها من لعب دور مهم في الوساطات الدولية، خاصة أنّ موقفها المتوازن منذ بداية الحرب الأوكرانية جعلها تحظى بثقة الأطراف الدولية. كما يشير إلى أنّ «المعادلة الجيوسياسية الحالية تتيح للجزائر فرصة لتعزيز مكانتها كقوة دبلوماسية قادرة على تقديم حلول بديلة لنزاع تتشابك فيه المصالح الدولية والإقليمية»، وأكّد رئيس الجمهورية السيد عبد المجيد تبون، مرارًا استعداد الجزائر للمساهمة بفاعلية في إيجاد حل عادل ومستدام للأزمة الأوكرانية، انطلاقًا من نهج دبلوماسي يقوم على الحوار والتسوية السلمية.
وهذا الطرح، المستند إلى رؤية سياسية متّزنة ومنطق استراتيجي سليم، بات يكتسب زخمًا متزايدًا على الساحة الدولية، خاصة في ظل إدراك متنامٍ بأنّ سياسات العقوبات والتصعيد لم تؤدِّ سوى إلى تعقيد الأزمات، بدلًا من حلها.
لذلك، يمكن فهم تلقي وزير الدولة وزير الشؤون الخارجية، أحمد عطاف، مكالمة من نظيره الأوكراني، أمس أول، في سياق إدراك الدور الهام الذي يمكن أن تلعبه الجزائر في تقريب وجهات النظر والدفع باتجاه بدأ مفاوضات سلام بين موسكو وكييف. خاصة وأنها تملك أوراقا ورصيدا يمكن توظيفه ضمن المسعى القاضي بوضع حدّ للحرب الشرسة التي اندلعت قبل سنتين.