”ابني أبيض وشعره قصير.. شفت يا خال راسه هان او هان”

عيسى قراقع

يحمل جثّة ابنه الذي استشهد في مجزرة مدرسة ومسجد التابعين في حي الدرج في مدينة غزّة يوم 10/8/2024، والتي استشهد فيها أكثر من 100 شخص وعشرات المصابين والمفقودين، الجثة مقطوعة الرأس، يصرخ وينادي وسط الدمار والهول والجثث المتناثرة والممزّقة: “ابني ابيض وشعره قصير، شفت يا خال راسه هان او هان”
يفتّش تحت الأنقاض، يقلّب الحجارة والاسمنت لعلّه يجد رأس ابنه، أين ذهب الرأس؟ هناك رؤوس كثيرة مقطوعة وضائعة، لا يوجد أجساد متكاملة، الصواريخ الذكية الفتاكة دقيقة التوجيه، أمريكية الصنع، ألقت أكثر من ألفي رطل من القنابل التي تصل حرارتها إلى 7 آلاف درجة في ذلك الفجر الدامي في قطاع غزّة، يقال إنّها تسمى البرد الثقيل أو القنابل الغبية، والتي تطحن الرؤوس والأجساد وتلقي بها في عاصفة الغبار والبارود وتعجنهم في جنون المذبحة.
جثّة ابنه التي يحتضنها بين يديه مذهولا ومصدوما نزفت كلّ الدماء، الجثة محروقة وناشفة، الجثة ستذهب إلى الملكوت الأعلى بلا رأس، هل ستتعرّف عليه الملائكة بلا عينين وبسمة طفولية، بلا ملامح تدلّ عليه وعلى حياته وعائلته وأحلامه المقصوفة؟ إنّ الله على كلّ شيء قدير، ربما سوف تستقبله السماء وتسجّل في صفحتها: إنه وصلنا من أرض غزّة طفل جميل، مقطوع الرأس، وتم دفنه بين الغيوم والفراشات الملوّنة، سينضم إلى مخيم الجثث الصاعدة بلا شهادة ميلاد وهوية وذاكرة.
«ابني ابيض وشعره قصير، شفت يا خال راسه هان ولا هان،” وسمع مناديا من المسعفين يقول له: ضع جثة ابنك في هذا الكيس مع الأشلاء التي جمعناها، فكلّ 70 كيلو لحم بشري تساوي جثة شهيد، لا خيار أمامنا ولا وقت، فقد التقطنا العظام والأيادي والأرجل والرؤوس والأصابع والأسنان والأكباد والأحشاء ووضعناها في أكياس حتى لا تأكلها الكلاب الجائعة، وحتى لا تهرسها الدبّابات والجرافات، فتوكل على الله، فالأجساد تتكامل، وتتركّب الأطراف مع بعضها وتبني نفسها بنفسها، الشهداء يتشكّلون ويعودون إلى صورهم الأولى مرة ثانية.
توجّه والد الشهيد إلى مرمّمي الجثث الذين أصبحوا ذوي خبرة خلال هذه الحرب الإبادية، تقصدهم عائلات الشهداء كي يرمّموا جثث أبنائهم وذويهم الذين مزّقتهم الانفجارات والقتل اليومي، كان متشوّقا أن يعيدوا الرأس المفقود لابنه الشهيد قبل أن يتوجّه إلى المقبرة، ليضع شاهدا ويقرأ الفاتحة.
هذا حال الناس في غزّة أن يجدوا رؤوسهم المبعثرة، ولكن الصعوبة هي القدرة على اللحاق بالجثث التي تركض إلى أماكن بعيدة، تمتصّها القنابل، وتصهرها النيران والأحزمة النارية، وتأخذها إلى جهات مجهولة.
في غزّة، كلّ 70 كيلو لحم تساوي جثة، وفي هذه الأكياس البيضاء، وأحيانا أكياس الأرز الفارغة، تجد رفاتا من كلّ الأطياف السياسية، التنظيمات والفصائل، ومن السكان المدنيين والمفزوعين، الفقراء والمسحوقين والمهمّشين، الكلّ في هذا الكيس على أرض غزّة المحروقة، وأسمع أحدهم يقول: الآن لململنا القضية وتشكّلت الوحدة الوطنية من الشهداء، الدماء والعظام والجماجم والعقول والأفكار، بنيان مرصوص يلتئم من القاعدة إلى القمة.
في هذه الأكياس على أرض غزّة، تتضامن الأجساد المفسّخة مع بعضها، تدعم نفسها، فاليد اليسرى تصافح اليمنى، تتوحّد الجثث وتعلن انتهاء انقسامها وتشظيها، الشهداء شكّلوا حكومة الوحدة الوطنية أجسادا ومصيرا ورؤية، تبادلوا أطرافهم بقسمة عادلة، تجمّعوا إرادة وصمودا وأرواحا وأجسادا ولغة واحدة.
زارتنا غزّة ودخلت بيوتنا ونفوسنا، لهذا سنزور غزّة، نجمع النصفين المقطوعين ونعثر على الرأس، يمتزج الليل بالنهار والرمل بالدم، الوطن بلحم الناس، أحلام اليقظة بالصمت، الجوع وشرف الأسرى والأسيرات في المعسكرات، النازحون والمشردون، التاريخ والجغرافيا، المكان والزمان، سنكون في غزّة حتى لا تبقى الأشلاء تائهة، نحن مصابون باليقين والإيمان، نعيش في عصر الخلود الثاني، فالمتناقضات التي ورثناها لم يعد لها مكان الآن، إننا في درجة العدم والصفر، ومن هنا علينا أن نبدأ، الشهداء دائما يتدخلون لمساعدة الأحياء الحالمين، ينقصنا أن نكون واحدا لا اثنين كي نتعانق أكثر.
فعندما تتفكّك الأجساد يتفكّك الوطن، فما أصعب التآكل الداخلي والإبادة الذاتية، وإذا كان لا بد من موت، فلنمت قطعة واحدة، هناك علاقة بين الحب والشظية، يقطع الرأس في غزّة، لكن المطلوب هو رأس القدس والضفة المحتلّة. إنّ براكين الحرب البشعة على قطاع غزّة ستنطفئ يوما، لكن براكين البشر تزداد اشتعالا، فهل من يقول: لن تبقى الجثة ناقصة؟ اسم واحد لا اسمين، جثة واحدة لا جثتين، رأس واحد لا رأسين، ربما تقطّعت أجسادنا لنتعلم تركيب وجودنا وشكلنا بصورة أخرى، وكي تعجز الدولة الصهيونية أن تذبحنا وتفرقنا بسيوفها الحديدية. هولوكوست غزّة يقول: الجسد قد يشفى ولكن الرأس مليء بالأفكار، لهذا أبيد أكثر من 100 عالم وأكاديمي ومفكر وكاتب وفنان في قطاع غزّة، قصفت الرؤوس والعقول، الإبداعات والجامعات والأرشيفات والسرديّات والأشعار، لهذا قتلوا غسان كنفاني وناجي العلي وماجد أبو شرار، وما زالوا في غزّة يقصفون رؤوس الكلمات.
«ابني ابيض وشعره قصير، شفت يا خال راسه هان ولا هان”، وما زلت أسمع تلك المرأة الغزاوية تصرخ:« ابن اختي مخه طلع من راسه، وين الإنسانية”، آخر يقول: دفنوني في ساحة عامة دون أيّ شاهد، أشلائي دسوها في قبر جماعي على حافة الطريق، لا تصل إلى أيّ جهة أبدا”. وسمعت مدير مستشفى المعمداني يقول: وصل إلينا طفل صغير عمره 16 سنة، جزؤه السفلي مفتت ومهشم، وأثناء إجراء الجراحة الطارئة صدمت عندما وجدت رأس شخص آخر محطم بين عظام ساقيه، لم أتعرف عليه إلا من خلال الفم والذقن، كان مشهدا يفوق قدرة القلب والعقل على التحمل.
رأيت في غزّة امرأة تبكي وتلطم مذعورة وهي تحدق في طفلها الذي مزّقه الانفجار، امتلأ وجهه بالدم والشظايا، فقامت ومسحت ونظفت جسده بخرقتها البيضاء قبل أن يوضع ما تبقى منه في كيس الجثث. سمعت أحمد بشير العيلة يقول: بالكاد استطعت تجميع أشلاء بأشلاء لأُسميها ولدي الأكبر، ثم أشلاء بأشلاء لاسميها ولديّ الآخرين، ثم خليط لأخرى لأسميها ابنتي مع زوجتي، لقد استوى القطاع على عرش الدم، أشلاء تتصارع وتتقاتل على أجساد تعتقد أنها لها، وأجساد تتعب من البحث عن أشلائها، هي آخر الأدعية أن تدفن أشلائي معي وأن اجد رأسي بين أعضائي.
سمعت توفيق أبو شومر يقول: كنت أحس بأنّني أحمل جسدا آخر فوق جسدي، صرت أشتاق إلى موت سريع لا يزعج أحدا، وتناهى لي صوت تلك الأم المفجوعة: “يا حبيب قلبي يا صغيري، يلعن الاحتلال اللي موتك في اول عمرك،” وكان هناك رضيعة بنصف رأس تحتضن قنينة الحليب، الشاعرة بيسان نتيل تسأل: من أكون؟ جسدي الذي صار فوق الخراب لم يكن لي، أكاد أنكر جسدي العابر فوق المجازر، كيف سنموت، قطعة واحدة، قطعتين، ثلاث، وأين تتناثر دماؤنا؟ في الحرب لا شيء يعطي معناه، نجتهد في تجميع أجسادنا لينعكس المشهد في جسد واحد إلى الأشلاء، أريد أن أموت كاملة. يسألني صحفي عن أسباب كثرة الرؤوس المقطوعة في الحرب البشعة على غزّة.
 قلت: ربما لأنّ الناس ينظرون على مدار الساعة إلى الأعلى، يراقبون الطائرات ويسمعون صوت الزنانات ليأخذوا حذرهم، وربّما حسب تفسير الأديب عبد الرحيم الهبيل: أنّ من نام مات فصرنا ننام واقفين، وربما بسبب الجوع والأوبئة والبؤس يرفع الناس رؤوسهم إلى السماء ويتلون آية الرحمن” (رزقكم في السماء وما توعدون) وأحد الباحثين قال: إنّ المساكين والجوعى يرفعون رؤوسهم وينظرون إلى الفضاء، ينتظرون هبوط المظلات الغذائية والمساعدات، ترافقها المقذوفات والصواريخ التي أطاحت برؤوس الناس في صناديق الغذاء، وعدد من المؤرخين قالوا: إنّ الدولة الصهيونية تحذو حذو أمريكا التي قطعت رؤوس الهنود الحمر في حربها الإبادية ضدّهم وسلخت فروات الرؤوس، ومن يقرأ تاريخ الشناعة والتوحّش الأوروبي يكتشف فنون القتل الفظيعة، وخاصة قطع الرؤوس وعرضها في الساحات وفي المتاحف إلى درجة أنّ أوروبا قامت فوق الجماجم، وعبر الشاعر المتوكل طه عن ذلك ساخرا من متحف الإنسان في بلد الأنوار والحضارات، عندما كتب عن دم النار في غزّة: “وحتى اللحظة لم تعد تلك الرؤوس في موكب مهيب إلى أرض أوطانها، وما زالوا يقطعون الرؤوس ويرسلونها لتزيين قصور الأباطرة والرؤساء، إنّه عارُهم الباقي”.
«ابني ابيض وشعره قصير شفت يا خال راسه هان او هان”، لعلّ هذا الرأس سقط في مخيّم نور شمس، التحم مع الجسد وقام ومشى في الشوارع المحفورة، ولعلّه سقط في ساحة المنارة في رام الله، ليقول للمتظاهرين والغاضبين: لا تصالح على الدم حتى بدم، لا تصالح ولو قيل رأس برأس، أكل الرؤوس سواء؟ ولعلّ هذا الرأس سقط في معتقل النقب حيث يتم الدعس على رؤوس الأسرى وإجبارهم بالعنف على الانحناء، لكن صوتا يصيح من بين الظلمات: إن عشت فعش حرّا أو مت كالأشجار وقوفا، وقوفا كالأشجار، وارمي حجرا في الماء الراكد تندلع الأنهار.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024