الهويــة المسلوــبة والنــور المنشــود..قــراءة في فلسفـــة المقاومـــة
تُعد رواية “قناع بلون السماء” للأسير والكاتب الفلسطيني باسم خندقجي، العمل الفائز بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2024، تحفة أدبية تُشرّح تعقيدات الهوية الفلسطينية في سياق الاحتلال الصهيوني..تستعير الرواية “القناع” ليس كأداة للتمويه فحسب، بل كمنهج وجودي ونقدي لاختراق بنية الوعي والسرديات المتناقضة. لا تكتفي الرواية بسرد حكاية “نور” الذي يتلبس شخصية “أور” المحتل، بل تتجاوز ذلك لتقديم دراسة معمقة للواقع الفلسطيني، وتطرح أسئلة فلسفية حول المقاومة، تعريف الوجود، والسعي المضني نحو اكتشاف الذات في ظل ظروف قسرية.
تتركز نقطة الانطلاق في الرواية حول اللحظة المحورية التي يجد فيها “نور” الهوية الصهيونية الزرقاء..هذا الاكتشاف ليس مجرد صدفة عابرة، بل هو بوابة لقرار واعٍ ومحسوب، يتبنى فيه “نور” قناع “أور” لينخرط في بعثة تنقيب صهيونية.
إن الغاية الأساسية لهذا التحول الظاهري هي، كما يُشار صراحةً، “محاولة لفهم مفردات العقل الصهيوني”..هذا الهدف لا يعكس تماهياً، بل استراتيجية اختراق معرفي تهدف إلى تفكيك آليات تفكير المحتل.
تُبرز الرواية سعي “نور” المستمر لفك شفرة هذا “العقل”، لا سيما من خلال ملاحظاته الدقيقة لسلوك وتصريحات المحتلين. فعلى سبيل المثال، يتأمل “نور” في كيفية تزييف التاريخ وتبرير السيطرة من خلال مشروع التنقيب نفسه. ويدرك أن الهدف الحقيقي ليس اكتشاف الحقيقة الأثرية، بل ترسيخ سردية احتلالية.
هذا الوعي يتجلى في فكره عندما يصف العمل مع الصهاينة: “أنا لا أتنقب في الأرض فقط، بل أتنقب في عقولهم. أحاول أن أجد الطبقة التي تدفن الحقيقة، الطبقة التي يضعون عليها أكاذيبهم ليظهروا وكأنهم أصحاب الأرض” (ص. 34). هذا يؤكد الدور الإبستمولوجي للقناع؛ فـ«نور” من خلال تواجده كـ«أور”، لا يكتشف آثاراً مادية فحسب، بل يفكك الأيديولوجيا التي تُبنى عليها الرواية الاستعمارية. كما يتأمل في تناقضات خطابهم، قائلاً: “كانوا يتحدثون عن السلام، وأيديهم تحفر في أرض ليست لهم بحثاً عن جذور لا تنبت في غير أرضها” (ص. 78)، مما يعمق فهمه لزيف ادعاءاتهم.
جدلية الهوية المسلوبة..
تُشكل جدلية الهوية المحور المركزي الذي تنسج حوله الرواية خيوطها السردية بعمق مؤلم. تحول “نور” إلى “أور” ليس مجرد تغيير اسم، بل هو تجسيد حي لأزمة الانتماء والتشرذم الذي يُعانيه الوجود الفلسطيني. تُطرح أسئلة وجودية حادة حول مدى قدرة الفرد على ارتداء قناع خارجي دون أن يترك ذلك ندوباً في جوهره الداخلي، ومدى إمكانية فهم الآخر دون أن يتسرب جزء من هذا الفهم إلى بنية الذات. الرواية لا تُقدم إجابات سهلة، بل تُبحر في الأعماق المتوترة لهذا التحول، حيث يُحاول “نور” جاهداً الحفاظ على خصوصيته.
يتجلى هذا الصراع في التناقض الصارخ بين “الهوية الزرقاء” التي تُمنحه حركة ظاهرية و«التصريح” الذي يُقيد وجوده ويُذكره بحدوده كفلسطيني.
يُشير المؤلف إلى هذه الثنائية بوضوح: “الجديد بين الهوية الزرقاء والتصريح بين السردية الأصلية المهمشة والسردية المختلفة السائدة”، وتُجسد الرواية هذا الصراع داخلياً في شخصية “نور”، الذي يجد نفسه ممزقاً بين عالمين، بين ما يظهره وما يُخفيه. يقول “نور” في لحظة تأمل دقيقة تعكس هذا الانفصال الروحي عن جسده المُقنّع: “كم هو ثقيل هذا القناع، لا يخبئ وجهي فحسب، بل يخبئ روحي أيضاً. أراهن أن أور لم يستطع أن يلمس نوراً حقيقياً في حياته، ولا أنا استطعت أن ألمس نوراً حقيقياً وأنا أور” (ص. 65).
هذا ما يُسلط الضوء على الانفصال بين الجسد (الخاضع للقناع) والروح (المتمسك بالأصل)، مؤكداً أن القناع لا يستطيع أن يمحو الجوهر، ولكنه يُحدث شرخاً عميقاً في الذات. كما يعكس هذا التشتت في تفكيره حول مستقبله وهويته: “ماذا لو نسيت نفسي؟ ماذا لو غرق نور في بحر أور؟ أي هوية سأحملها حينها؟” (ص. 112). هذا السؤال الوجودي يؤكد عمق الأزمة الهوياتية التي يعيشها.
المقاومــة المعرفيـــة..
تُقدم الرواية شكلاً فريداً وعميقاً من المقاومة، يتجاوز الأنماط التقليدية ليتبنى المقاومة الفكرية والمعرفية. “نور” لا يُقاتل بالسلاح، بل يُقاوم بالوعي، بالبحث الأثري، وبالعمل على استعادة التاريخ المسلوب. إن سعيه المحموم وراء “فلسطين المطمورة” هو في جوهره فعل مقاومة وجودي يهدف إلى إعادة الكشف عن التاريخ الحقيقي للأرض والإنسان، التاريخ الذي يسعى الاحتلال بكل قواه إلى طمسه، تزويره، أو دفنه تحت سردياته الزائفة.
«وفي انضمامه إلى بعثة تنقيب إحدى المستوطنات تتجلى فلسطين المطمورة تحت التربة بكل تاريخها”..تُبرز الرواية هذا المعنى في التزام “نور” الدؤوب بعملية التنقيب نفسها، لا كعالم آثار محايد، بل كمناضل يسعى للكشف عن الحقيقة. يتجسد هذا في وصفه لعمله، حيث يرى في كل قطعة أثرية دليلاً على الوجود الفلسطيني، ويسعى جاهداً لإعادة ربط هذه الأدلة بالسردية الأصلية. يقول نور بوضوح وهو يتأمل قطعة أثرية: “هذه ليست مجرد حجر، هذه حكاية شعب كامل، حكاية حاولوا أن يدفنوها تحت رمال الزمن وتحت أنقاض أكاذيبهم. لكن الأرض لا تكذب، والأثر يشهد” (ص. 91). كما يضيف في موضع آخر مؤكداً على قوة الرواية التاريخية: “لم تكن معاولنا تحفر في الأرض فحسب، بل في ذاكرة من أرادوا لها أن تُنسى” (ص. 130). وهذا يؤكد أن “فلسطين المطمورة” ليست مجرد بقايا مادية، بل هي الذاكرة الحية للأرض، الشاهدة على الوجود الفلسطيني المتجذر. هنا تُرسل الرواية رسالة قوية: الحفاظ على الذاكرة الجماعية والتاريخ الموثق هو سلاح استراتيجي لا يقل أهمية عن أي سلاح آخر في مواجهة محاولات الاقتلاع والطمس.
الرحلـة نحـو “النـور”..
يُطرح السؤال المركزي للرواية، والذي يُختتم به كخلاصة لرحلة البحث عن الخلاص وتأكيد الهوية. يُشكل هذا السؤال دعامة فلسفية للرواية بأكملها، حيث يُذكر صراحةً في “هل سينجح نور في إلقاء القناع والقضاء على أور. عله يصل إلى النور؟”.تُقدم الرواية فكرة “النور” كهدف أسمى يتجاوز التحرر السياسي ليشمل التحرر الذاتي من الأغلال النفسية والوجودية التي يفرضها الاحتلال.. إن “إلقاء القناع” يعني التخلص من الازدواجية الوجودية، والعودة إلى الذات الأصيلة غير المشوهة. تُظهر الرواية أن هذه العملية ليست سهلة، فهي تتطلب مواجهة الذات والتحرر من كل ما علق بها من سموم الاحتلال. في لحظة فارقة، يعي “نور” أن التحرر الحقيقي يكمن في الانسلاخ عن كل ما ليس منه، ويقول معبراً عن رغبته في التخلص من التزييف: “أريد أن أتنفس هواء حريتي غير ملوث برائحة الأقنعة، أن أستعيد نفسي، نوراً بلا أور” (ص. 187)، ما يُبرز أن “إلقاء القناع” هو عملية تطهير ذاتي واستعادة للأصالة. أما “القضاء على أور” فيُشير إلى تجاوز التفكير الاحتلالي، وتحرير الوعي من “مفردات العقل الصهيوني” التي قد تتسلل إليه وتُحدّ من إدراكه للحقيقة. هذا يظهر في إدراكه أن جزءاً من المعركة هو داخلي: “التحرر الحقيقي يبدأ من الداخل، من إزالة احتلال الوعي قبل احتلال الأرض” (ص. 210). الوصول إلى “النور” يُعد إعلاناً للانتصار على الاغتراب الوجودي، وتأكيداً راسخاً للهوية الفلسطينية الأصيلة، التي تستمد قوتها من تجذرها في الأرض والتاريخ، وتتطلع نحو تحقيق التحرر والسيادة الكاملين.
في الختام، تُقدم “قناع بلون السماء” رؤية لاذعة ومُتحررة لتجربة شعب بأكمله، مُتجاوزة كونها مجرد حكاية فردية. إنها دعوة للفحص النقدي لآليات الاستعمار، وللتحلي بمرونة فكرية في تبني أشكال المقاومة المتعددة. إنها رواية تُفكك الأبنية السردية، وتُحلل الأبعاد النفسية والوجودية للصراع، وتُضيء مساحات مظلمة في فهمنا للهوية والمقاومة، مؤكدة أن النور الحقيقي ينبثق من استعادة الذات وتحريرها من كل الأقنعة التي يفرضها واقع الاحتلال الغاشم.