فرنسا تقول بأنها لن تبقى إلى الأبد في مالي، بل ستغادر بمجرّد أن تحقق أهدافها التي هي أهداف الماليين أيضا، دون أن تدري بأنه إذا كان بدء الحرب بيدها فإن إنهاءها تتحكم فيه معطيات تتجاوزها، و«بوش» نفسه قال ذات مرة وهو يباشر غزوه للعراق، بأنها ستكون فسحة قصيرة لجنوده، ثم ما لبث أن وقع في فخ أبقاه هناك تسعة أعوام كاملة، وكذلك الأمر بالنسبة لاحتلال أفغانستان، حيث مازالت أمريكا تبحث عن مخرج مشرّف بعد ١٢ عاما من الكرّ والفرّ وراء القاعدة وطالبان فلا تمّ القضاء على الأولى، ولا تم التخلص من الثانية.
مبدئيا من السابق لأوانه القول بأن المهمة العسكرية في مالي ستكون قصيرة، إلا إذا كانت باريس التي إستعجلت فرض خيار القوّة ستفرّ بجلدها بعد أن تُورّط الجيوش الإفريقية في حرب تتجاوز قدراتهم، بل في حرب غير تقليدية مخاطرها كثيرة وخسائرها كبيرة.
فرنسا على الأرجح ستبدأ العملية العسكرية ثم تنسحب، وحرب مالي لن تكون فسحة أو بدون خسائر أو تداعيات خطيرة على المنطقة، بل على العكس، ولعل أكبر من سيدفع الثمن غاليا هم المدنيون الماليون الذين نراهم يفرّون من مدنهم وقراهم بالشمال والوسط في موجات هائلة من النازحين تتدفق على العاصمة والمدن الجنوبية وأخرى من اللاجئين بدأت تغرق دول الجوار التي لم تغلق حدودها لتضاف إلى الأرقام الضخمة التي فرّت من جحيم الوضع المتأزم منذ أن استحوذ الانفصاليون والإرهابيون قبل ٩ أشهر على الشمال.
وحسب تقديرات الأمم المتحدة، فإن أزيد من ١٥٠ ألف لاجئ و٢٣٠ ألف نازح يوجدون الآن في ظروف إنسانية مأساوية، حيث يفتقرون إلى أدنى شروط الحياة من ماء وغذاء، كما يوجد ٤ ملايين مالي في أوضاع صعبة.
تواصل الحرب في مالي سيقابلها حتما استمرار فرار المدنيين الذين يتخوفون ليس فقط من أن يصبحوا أهدافا للقصف ـ وإن كان خطأ ـ كما ظل يحصل في وزيرستان بين أفغانستان وباكستان ويحصد مئات الضحايا، بل ومن أن يتحوّلوا إلى دروع بشرية للإرهابيين، وعلّمتنا الحروب المشابهة، أن المجموعات الإرهابية في الغالب تختبئ في أوساط المدنيين، وفي الغالب أيضا تنتقم منهم بارتكاب مجازر ومذابح وتنفيذ اغتيالات وتفجيرات..
لهذا نتوقع أن تسجل خسائر هائلة في صفوف المدنيين الذين لن يسعفهم الحظ بالفرار إلى مناطق أكثر أمنا.
وفي كل الأحوال، فإن أزمة إنسانية بدأت معالمها ترتسم في مالي ودول الجوار.