من موانئ المغـرب إلى مطارات الكيـان.. «شراكة الإبــادة» تتواصـل
تحوّلت السياسات التي ينتهجها نظام المخزن المغربي إلى نموذج متكامل للفشل البنيوي والفساد المهيكل، حيث لم يعد المواطن المغربي يرى في الدولة سوى جهاز جباية يثقل كاهله بالضرائب، مقابل انهيار الخدمات الأساسية وتبخر القدرة الشرائية وتفشي البطالة.. هذا الانحطاط الداخلي لم يقف عند حدود الاقتصاد والاجتماع، بل يعضده ارتماء المخزن في أحضان الكيان الصهيوني باعتماد سياسة تطبيع وانبطاح كامل، ما عمّق عزلة (المخازنية) الداخلية، وأثار غضبًا شعبيًا عارمًا، خصوصًا مع «شراكته الوقحة» في تمرير الأسلحة إلى الكيان الصهيوني، والحرص على تغطية جرائم الإبادة في غزة.
لم يعد الوضع المأساوي بالمغرب خافياً على أحد، فقد تكشّف زيف الشعارات الرسمية أمام واقع يزداد قتامة يوماً بعد يوم، فالمخزن الذي «يرقص» على أنغام «الدولة الاجتماعية» و»المشاريع التنموية» لم يقدّم للمغاربة سوى أزمات متلاحقة.. فساد ينخر مؤسسات الدولة، قمع يستهدف الحريات والحقوق، بطالة تهم أحلام الشباب وطموحه، وغلاء معيشي يخنق القدرة الشرائية، ويهوي بالمغربي البسيط إلى مهاوي الفاقة، ولا يتوقف المخزن عن صناعة «البؤس»، وإنما يعمّقه بانتهاج سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني، غير عابئ برفض الشعب المغربي لهذه الخيانة المنكرة، بل يذهب إلى حدّ قمع الطلبة والنشطاء واعتقال الأصوات الحرة التي تعبّر عن رفضها لسياساته البائسة.
هذا المشهد المريع، يكتمل بملف آخر بالغ الخطورة.. المخدرات، إذ تحوّل المخزن إلى أكبر مروّج لهذه السموم في المنطقة، فهو يستعملها لإسكات الغضب الاجتماعي في الداخل، وتخريب استقرار جيرانه في الخارج. وبين هذا وذاك، يبقى الاحتلال المغربي للصحراء الغربية وصمة عار كبرى على جبين نظام يرفض الاعتراف بحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، رغم اعتراف إفريقيا والعالم بعدالة قضيته.
الفساد المهيكل و»الدولة الجبائية»
تشير تقارير الأحزاب والهيئات المغربية إلى أن الفساد لم يعد ظاهرة معزولة، بل تحوّل إلى نظام قائم بذاته، فقد كشف الأمين العام لحزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، عبد العزيز عبد السلام، أن المغرب يخسر ما يقارب 50 مليار درهم سنوياً بسبب الفساد المستشري في الصفقات العمومية والنهب الممنهج للثروات. وهو رقم مهول يكفي - لو يُستُثمر بشكل شفاف - لتشييد آلاف المدارس والمستشفيات، وربما لإنقاذ ضحايا زلزال الحوز الذين ما يزالون يفترشون الأرض ويلتحفون السماء منذ عام 2023..
هذه الحقائق تتناقض مع شعارات «الدولة الاجتماعية» التي ترفعها الحكومة، بينما يُترك المواطن يواجه أعباء العلاج والتعليم على حسابه الخاص، إن وجد هذا العلاج وهذا التعليم، ذلك أن أكثر من ربع القدرة الشرائية للأسر المغربية، تبخرت خلال سنتين فقط، نتيجة ارتفاع أسعار المواد الأساسية بنسبة 23% دون أي رفع للأجور، ولا أي تفكير في مصير الملايين من الكادحين الذين تحولوا مع الوقت إلى رهائن للغلاء والتقشف.
المخزن يمثل دولة «جبائية» - كما وصفها العديد من الفاعلين - لا يهمها سوى جمع الضرائب لسد العجز، فيما تتكدّس الثروات في يد أقلية «محظوظة» تستغل مواقع القرار للإثراء عبر الصفقات المشبوهة والمضاربات.
ولم يختلف موقف حزب النهج الديمقراطي العمالي، فقد سجل في بيان نشره بحر الأسبوع الجاري، فشل مشاريع نظام المخزن «التنموية» الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة أساسا بمصالح «مافيا البلاد» التي تكرس الاستبداد السياسي والاقتصادي وتعمم الفساد، وتركز السلطة والثروة في يد أقلية مطبّعة مع كيان الإجرام الصهيوني، وشدّد الحزب على أن المخزن يحاول التنفيس عن ذلك بالدعاية الوهمية حول امتلاك «مشاريع تنموية» تكذبها الوقائع، والعمل على تمرير «قوانين الردة التراجعية» في المجال الاجتماعي والحريات النقابية.
قمع الحريات وتكميم الأصوات
ولا يكتفي المخزن بنهب ثروات الشعب المغربي، بل يواجه كل صوت ناقد بالقمع والاعتقال. فقد وثّقت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان استمرار الاعتقالات والمحاكمات بسبب الرأي، بينما تعرّض الطلبة في مدينة تطوان للاعتقال بتهمة توزيع منشورات سلمية تدعو إلى مقاطعة منتجات داعمة للاحتلال الصهيوني.
ولم يتوقف القمع عند حدود الطلبة، والمدونة سعيدة العلمي مثال صارخ.. بعد أن سجنت سنتين بسبب كتاباتها ضد التطبيع، أعيد اعتقالها بتهم ملفقة، في مشهد يكشف أن حرية التعبير أصبحت جريمة في المغرب، وأجمعت الهيئات الحقوقية أن محاكمة العلمي «سياسية وانتقامية» من مواقفها الجريئة.
ولم يسلم المناضلون القدامى ضد الاستبداد، فقد تعرّض منسق حركة المقاطعة (BDS المغرب) لاعتداء مشين في منزله، نُقل إثره في حالة غيبوبة إلى المستشفى، وربطت الهيئات الحقوقية الحادث بمواقفه الثابتة ضد التطبيع، وأشارت إلى أن المخزن يشنّ حملة ممنهجة لتكميم الأصوات المعارضة عبر التهديد والتخوين والاعتقالات، ولقد جددت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إدانتها لاستمرار سياسة التطبيع من طرف الدولة المغربية، مطالبة بوضع حد لاتفاقات العار المبرمة مع هذا الكيان الإرهابي والكف عن استقبال سفن الإبادة الذي يجعل من الدولة المغربية شريكا في جريمة الإبادة من منظور القانون الدولي، لكن المخزن لا يمكن أن يسمح للمواطنين المغلوبين على أمرهم، برؤية إلا ما يرى..
التطبيع..خيانة صارخة
تشكل سياسة التطبيع المخزني مع الكيان الصهيوني، نقطة انكسار كبرى في علاقة المخزن بالشعب المغربي، فالمغاربة الذين خرجوا في عشرات المدن، من الدار البيضاء إلى طنجة، عبّروا بوضوح عن رفضهم للتطبيع، واعتبروه «خيانة صارخة للقضية الفلسطينية».
الاحتجاجات الشعبية المتجددة في أغسطس 2025 لم تترك مجالاً للشك.. الشارع المغربي يرفض تحويل بلاده إلى قاعدة خلفية لدعم آلة الحرب الصهيونية، والمتظاهرون نددوا برسو سفن الإبادة في الموانئ المغربية لنقل أجزاء طائرات F-35 إلى الكيان الصهيوني، معتبرين أن ذلك يجعل المغرب شريكاً في جرائم الإبادة بغزة.
النقابات التعليمية بدورها رفعت صوتها عاليا، وحذّرت من خطورة الاختراق الأكاديمي الصهيوني للجامعات المغربية، كما انخرطت جمعيات حقوقية في فضح ما وصفته بـ»اتفاقيات العار» التي تضع المغرب في خانة التواطؤ مع الكيان الإرهابي.
غير أن المخزن اختار طريقاً آخر.. بدل مراجعة سياساته، لجأ إلى قمع الطلبة والنشطاء، مؤكداً أن التضامن مع فلسطين أصبح في المغرب جريمة يعاقب عليها القانون.
المخدرات.. سلاح الحرب القذرة
وليس أخطر من ملف المخدرات، فهو ملف يكشف وجه المخزن البشع، ويفضح هشاشة أفكاره الدنيئة، ولقد أكد قيادي في الحزب الوطني الريفي، يوبا الغديوي، أن النظام يقود مشروعاً ممنهجاً لتخريب عقول أبناء الريف عبر إغراق المنطقة بمختلف أنواع المخدرات، في حرب قذرة تهدف إلى شلّ طاقات الشباب وإخماد غضبهم.
ولا يتوقف الأمر عند «الريف» الذي يدافع عن كرامته، ويستبسل في كفاح الكولونيالية الغاشمة، فالمخدرات تحوّلت إلى ورقة في يد المخزن لتخريب استقرار الدول في إفريقيا وأوربا، ويجعل من (بقشيشها) غنائم يضخها في جيوب الفساد.. المخزن يعتقد أنه يمكن أن يلهي المجتمعات عن جرائمه الاستعمارية، غير أن المحيطين به جميعا على بصيرة بهذه السياسة المقيتة، فالمخزن لا يكتفي بتصدير الأزمات الداخلية، بل يصدر السموم إلى الخارج، محاولاً تدمير كل من يقف موقفا إنسانيا يرفض العقلية الكولونايالية البائدة.
الصحراء الغربية.. جرح إنساني غائر
ويبقى الاحتلال المغربي للصحراء الغربية أكبر فضيحة سياسية وأخلاقية لنظام المخزن، فرغم مرور عقود على بداية النزاع، ورغم عشرات القرارات الأممية التي تؤكد حق الشعب الصحراوي في تقرير المصير، يواصل المغرب تمسكه بخطاب يتناقض مع القانون الدولي، غير أن الواقع الميداني يكشف حجم التناقض، فالمغرب الذي يروّج لروايات وهمية عن تدمير الألغام في الإقليم المحتل، لم يقدّم أي دليل ملموس، فيما وثّق مكتب «سماكو» الصحراوي التناقضات الفاضحة في بياناته، مؤكداً أن الأرقام التي يقدمها أقرب إلى الدعاية منها إلى الحقيقة.
في المقابل، اتخذت جبهة البوليساريو خطوات ملموسة.. تدمير علني لمخزونها من الألغام بحضور مراقبين دوليين، والتزام صريح بالاتفاقيات الدولية، بينما ما يزال المغرب يرفض حتى الانضمام إلى معاهدة أوتاوا الخاصة بحظر الألغام المضادة للأفراد.
وفي انتصارات أخرى تتحقق للقضية الصحراوية العادلة، جددت دول كبرى مثل جنوب إفريقيا ومجموعة «السادك»، دعمها الثابت للقضية الصحراوية، معتبرة أن حق الشعب الصحراوي في الاستقلال غير قابل للتصرف، ويعكس هذا الدعم الإفريقي حقيقة أن الصحراء الغربية تبقى آخر مستعمرة في القارة، وأن المغرب يقف اليوم في مواجهة التاريخ والجغرافيا والقانون الدولي.
الصحراويون.. المقاومة خيار وقرار
رغم القمع المغربي الوحشي في الأراضي المحتلة، يتمسك الشعب الصحراوي بخيار المقاومة. وهو ما تؤكده بيانات هيئات سياسية واجتماعية وثقافية، في أوروبا، وعبر كثير من دول العالم أجمعت على أن الشعب الصحراوي ماضٍ في الكفاح حتى تحقيق الاستقلال، وقدّم الصحراويون صورة عبقرية عن التفافهم حول وطنهم، حين حوّلوا جنازة المناضل إبراهيم العصبار، إلى مشهد وطني جامع يجسد وحدة الصف الصحراوي خلف شعار الحرية.
هذا الإصرار يثبت أن الزمن يعمل لصالح الشعوب المكافحة، فالمخزن، مهما استقوى بالفساد أو التطبيع أو تجارة المخدرات، لا يمكنه أن يُخمد إرادة شعب صمم على الحرية.
المخزن.. مأزق متعدّد الأبعاد
الفساد الذي ينهب الثروات، التطبيع الذي يخون فلسطين، المخدرات التي تدمر الشباب، والاحتلال الذي يضرب القانون الدولي كلها حلقات في سلسلة واحدة اسمها «المخزن».
النظام الذي يقدم نفسه كحليف استراتيجي للغرب في المنطقة، لا يملك في الداخل سوى القمع، ولا يقدم لشعبه سوى الأزمات، وبينما تتسع رقعة الغضب الشعبي، يراهن المخزن على القمع لتأجيل الانفجار، لكنه يغفل أن الشعوب التي قاومت الاستعمار والاحتلال تعرف جيداً كيف تكسر القيود.
ولا شكّ أن القضية الصحراوية ستبقى عنوان هذا الصراع، وفضح سياسات المخزن سيظل واجباً أخلاقياً على كل القوى الحرة في المغرب وخارجه؛ لأن التحرر من الاستبداد الداخلي مرتبط بالتحرر من الاستعمار الخارجي، ولأن شعباً يرزح تحت الفساد والقمع لا يمكن أن يتحرر ما لم يقف إلى جانب شعب آخر يناضل ضد الاحتلال.